منذ خريف 2019، دخلت أموال المودعين، لاسيما بالدولار الأميركي في لبنان خانة "المصير المجهول" نتيجة حجزها لدى المصارف من دون أن تقرّ السلطات المعنية أي صيغ قانونية تبرّر هذا التصرّف الذي يُمثّل إساءة ائتمان من قبل البنوك.
ومع أن حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، أكد في أكثر من مناسبة، أن ودائع اللبنانيين موجودة في المصارف، غير أن
الودائع المصرفية (تقدّر قيمتها بـ120 مليار دولار)، لاسيما بالعملات الأجنبية "تبخّرت" وتحوّلت إلى موجودات محلية تعطى
لأصحابها بالليرة اللبنانية وفق ما بات يُعرف بـ"اللولار"، أي أن كل دولار في المصارف بات يساوي 3900 ليرة لبنانية في حين أنه تخطّى عتبة الـ12 ألفاً في السوق السوداء.
أسوأ أزمة اقتصادية وتقنين معيشي
وفيما الطبقة السياسية غارقة في المناكفات والاتهامات المتبادلة بالفساد والعرقلة لاسيما ما تجلى أمس السبت في
جلسة البرلمان، يعيش اللبناني قلقاً كبيراً حيث بات همّه اليومي تأمين لقمة عيشه في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار وعدم ثبات سعر صرف الدولار
وأصبح يعيش على وقع "التقنين" ليس فقط بالكهرباء بل أيضاً بالمحروقات والخبز والسلع وحتى بماله، فهو ينتظر على باب
المصارف لكي يتمكن من سحب مبلغ ولو بسيطا من "جني عمره" ليتمكن من العيش بظل الأوضاع السيّئة التي فُرضت عليه.
فهل يعني ذلك أن استعادة المودعين لأموالهم، لاسيما بالعملات الأجنبية باتت حلماً أم لا تزال هناك إمكانية للإفراج عنها من
قبل المصارف؟ وكيف سيكون ذلك؟
بيع فروع المصارف بالخارج
للإجابة عن تلك الأسئلة، أوضح الخبير الاقتصادي ناصر السعيدي، وزير الاقتصاد والتجارة الأسبق، والنائب الأول لحاكم مصرف
لبنان الأسبق، "أن استعادة الناس لأموالها المحجوزة ممكنة إذا توفّرت خطوات عديدة تبدأ من المصارف من خلال إعادة تكوين
ميزانياتها ورساميلها، ومصرف لبنان سبق وبدأ بهذه الخطوة بالطلب من البنوك زيادة رأس المال 20% بحلول 28 فبراير/شباط
الفائت، إلا أن هذه الرساميل تبخّرت نتيجة الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها المصارف".
ومن أجل تعويض هذه الخسائر، اقترح السعيدي في حديث مع "العربية.نت" على المصارف أن تبيع فروعها خارج لبنان وأصولها
في الداخل (مثل العقارات) بالإضافة إلى إعادة "تخمين" العقارات التي تملكها مقابل الإعفاء من ضريبة التحصيل التي تفرضها
وزارة المالية على عملية التخمين".
خسائر تاريخية لمصرف لبنان
غير أن هذه الخطوات المطلوبة من القطاع المصرفي على أهميتها، لن تُحقق الغاية المرجوة بسبب ترابط ميزانيات المصارف
مع ميزانية المصرف المركزي والدولة، إذ لا يُمكن حل مشكلة ودائع الناس في المصارف من دون حلّ المشكلة القائمة في مصرف لبنان.
فبرأي السعيدي "العمليات التي قام بها مصرف لبنان مثل تدخله في سوق القطع من أجل المحافظة على ثبات سعر صرف
الليرة (1515) والهندسات المالية كبّدته خسائر ضخمة و"تاريخية" بقيمة 50 مليار دولار هي ضعف الناتج القومي الذي يتراوح
بين 20 و25 مليار دولار".
من هنا شدد الخبير الاقتصادي على "ضرورة إعادة تكوين ميزانية البنك المركزي من خلال سلوك طريق الإصلاح المالي وأولى
محطاتها الاعتراف بأن لا قيمة لسندات الخزينة (ديون للدولة) والمطلوب إعادة هيكلتها".
70 مليار دولار
وفي الإطار، اعتبر السعيدي "أن لبنان بحاجة إلى 70 مليار دولار على مدى خمس سنوات كي يعود الاقتصاد إلى نشاطه
الطبيعي. 25 مليارا من المصارف والباقي موزّعة بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول التي ترغب بمساعدة لبنان (وهي كثيرة)".
وفي هذا المجال، تُطرح تساؤلات عديدة حول رغبة الدول بمساعدة لبنان في ظل طبقة سياسية تُحمّلها مسؤولية إيصال
البلاد إلى هذا الوضع الاقتصادي والمالي السيّئ، وتشترط عليها تطبيق الإصلاحات المطلوبة مقابل مدّها بالمساعدات المالية.
شروط لتقديم المساعدات
وقال السعيدي "إن مكافحة الفساد وتطبيق القوانين أهم شرطين للدول لتقديم المساعدات للبنان".
كما لفت إلى "أن خطوة تأليف حكومة ليست كافية وإنما مكافحة الفساد الذي أوصل البلد إلى ما هو عليه اليوم، وهو يبدأ بالإصلاح المالي".
إلى ذلك، أوضح "أن عودة تداول الدولار إلى لبنان بشكل طبيعي مرتبطة بتطبيق هذه الخطوات، وأبواب المساعدة مفتوحة
لكن عليه أن يساعد نفسه أولاً، وما حصل في الأشهر الـ18 الأخيرة من انهيار للعملة وتراجع المؤشرات الاقتصادية كان يمكن
تفاديه لو صحّحنا الأخطاء التراكمية".