كان العمل عن بعد أمرا نادرا قبل عقد من الزمان، فقد كان العمل من المنزل متاحا فقط في حالات خاصة جدا، وكان يُعدّ أمرا مؤقتا في جميع الحالات تقريبا، ولكن ومع وصول جائحة كورونا التي أصابت العالم كله أصبح العمل عن بعد أمرا ضروريا، لا لاستمرار دورة العمل فقط، بل لاستمرار الحياة نفسها.
وقد اعتقد كثيرون في عام 2020 أن العمل عن بعد سيكون أمرا مؤقتا، وسينتهي مع انتهاء الجائحة، ولكن ها نحن في عام 2022 وما زال العمل عن بعد موجودا ويتوسع ويتجذر يوما بعد يوم، حيث اكتشف أرباب العمل والعمال أنفسهم الفوائد العديدة التي يجنيها الجميع من هذه الطريقة في العمل.
وفي الواقع، هناك نحو 16% من أصحاب الشركات في العالم لا يقبلون تعيين أي موظف في المكاتب، ويريدون أن يكون أداء العمل بالكامل عن بعد، وهذا النهج في اتساع مستمر، حيث يرى 32% من أصحاب العمل أن إنتاجية الموظفين قد ازدادت منذ أن بدأ موظفوهم العمل من المنزل، وفي دراسة أجرتها مختبرات "أو دبليو إل" (Owl labs) فقد قدرت أن 22% من القوى العاملة في أميركا (36.2 مليون أميركي) سيعملون عن بعد بالكامل في عام 2025، وذلك كما ذكرت منصة "أبولو تيكنيكال" (ApolloTechnical) في تقرير حديث لها.
ويذهب مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة "ميتا" (Meta) إلى أبعد من ذلك، فيرى أن 50% من الموظفين في شركته سيعملون عن بعد بحلول عام 2030. وما يؤكد هذه الرؤية قول 32% من الموظفين العاملين عن بُعد إنهم سيستقيلون من وظائفهم إذا ما أُجبروا على العودة إلى العمل من المكاتب، وذلك كما ورد في التقرير السابق.
نعم، العمل عن بُعد وجد ليبقى ويتمدد، هذه حقيقة الآن، ومع ذلك، ورغم الفوائد العديدة التي حققها العمل عن بعد فقد جلب معه مشاكل عديدة أيضا، وربما كانت أهم هذه المشاكل مشكلة الأمان والخصوصية.
أظهرت دراسة دولية صدرت حديثا عن "صناع برمجيات الأمن السيبراني" (Cybersecurity Software Maker) أن العاملين عن بعد لديهم مستويات قلق أعلى بشأن الأمان والخصوصية مقارنة بالموظفين الذي يعملون في مكاتبهم ومواقع شركاتهم.
كما أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "إف سكيور" (F-Secure) وضم 7200 شخص من 9 دول مختلفة في العالم أن 67% من العاملين عن بعد أبدوا قلقهم بشأن الأمن والخصوصية، مقارنة بـ58% من الموظفين الآخرين، وذلك كما ذكر الكاتب جون بي ميلو المتخصص في تكنولوجيا المعلومات في تقرير له نشرته منصة "تيك نيوز ورلد" (TechNewsWorld) أخيرا.
ويشعر العاملون عن بُعد أيضا بمزيد من الإرهاق عند محاولة إدارة الأمن عبر جميع أجهزتهم المتصلة مقارنة بالآخرين، كما أن لديهم خوفا أكثر من التعامل مع الإنترنت أيضا، فقد قال 65% من الموظفين عن بُعد إن الإنترنت أصبح مكانا خطيرا مقارنة بـ48% فقط من الموظفين الآخرين، وذلك كما ذكر ميلو في تقريره.
وقال جون غروهول، عالم النفس الأميركي المتخصص في السلوك عبر الإنترنت، في تصريحات لـ"تيك نيوز ورلد" نقلها الكاتب، "إن الموظفين عن بعد يفتقدون الدعم الذي يقدمه قسم تكنولوجيا المعلومات في الشركة، وعليهم أن يتعاملوا مع المشاكل الأمنية بمفردهم، وهو ما يشكل مصدر قلق ويرتّب عبئا إضافيا على هؤلاء الموظفين، كما تمثّل الأجهزة المتعددة والمتصلة مشكلة أخرى لهم أيضا".
وتابع "رأينا كيف يمكن أن تكون الأجهزة المتصلة المختلفة غير آمنة في المنزل، حيث يمكن لجهاز واحد فقط من تلك الأجهزة غير الآمنة أن يعرض سلامة وأمن الشبكة المنزلية بأكملها للخطر".
وأوضح جون بامبنيك، وهو مختص أمن المعلومات في شركة "نتنريتش" (Netenrich)، وهي شركة لعمليات الأمن الرقمي وتكنولوجيا المعلومات في ولاية كاليفورنيا الأميركية، "عندما يعمل الموظفون في مكاتبهم بمقار شركاتهم فإنهم يتمتعون بحماية المختصين بأمن المعلومات في هذه الشركات، هناك حراس يَقِظون دائما لأي تهديد، وهو ما يشعرهم بالأمان على عكس ما يحدث عندما يعملون من منازلهم حيث يفتقدون الحماية التي يوفرها هؤلاء الأشخاص.. يتعين على العاملين عن بُعد التعامل ليس فقط مع الشعور بالانفصال عن المكتب، ولكن أيضا مع الانفصال عن الأمن الذي توفره الشركة".
من جهته، أكد آدم جافيش، الرئيس التنفيذي لشركة "دو كونترول" (DoControl)، وهي مزود لخدمات الأمان في مدينة نيويورك، أن العمل عن بُعد يجعل الموظف يشعر بمزيد من الانكشاف، "فهناك شعور بالأمان عند الوجود في مكتب مادي، لذا فإن استبعادك من تلك البيئة يزيد فقط من القلق عندما يتعلق الأمر بالأمن والخصوصية".
وأضاف في تصريحات لمنصة تيك نيوز ورلد أوردها الكاتب في تقريره "من الطبيعي أن يشعر المرء بمزيد من الضعف نتيجة للانفصال الجسدي والعزلة عن بقية زملائه في العمل".
وبالإضافة إلى الشعور بالقلق من الانفصال، يجد العاملون عن بعد أنفسهم فجأة مثقلين بواجبات أمنية إضافية وهو ما يزيد من القلق.
وأوضح جافيش "هذا يعني أنهم مسؤولون عن إنشاء وإدارة كثير من كلمات المرور الجديدة، وتحميل البرامج المطلوبة وتثبيتها بالإعدادات الصحيحة، حيث إن الإعدادات الافتراضية للتطبيقات ليست في الغالب الأكثر خصوصية ولا أمانا".
قد تسهم هذه الواجبات الإضافية في القلق الأمني، لكنها يمكن أن تسهم في زيادة الوعي الأمني أيضا.
وفي هذا السياق أوضح كريس هوك، خبير خصوصية المستهلك في مؤسسة "بيكسل برايفسي" (Pixel Privacy)، وهي منصة متخصصة في أمن المعلومات وحماية الخصوصية، "من المحتمل أن تُطالب بإجراء تحديثات النظام والتطبيقات الخاصة بك، وهذا يعني أن عليك قراءة المزيد عن مواضيع الأمان والخصوصية، وذلك سيجعل الموظفين العاملين عن بعد أكثر معرفة ووعيا مما كانوا عليه أثناء العمل من المكتب".
ويزداد القلق الأمني للعاملين عن بُعد مع مرور الوقت، كما أكد كريس هوك في تصريحاته لتيك نيوز ورلد؛ "بمرور الوقت، ستتلاشى فكرة أن العمل من المنزل أمر مؤقت، وبمجرد أن يدرك الفرد أن هذا قد يكون أمرا طويل الأمد، ستبدأ مسؤولية خصوصية وأمان بيانات الشركة وأصولها في تأكيد نفسها لدى الموظف".
وأضاف "قد يكون من الأسهل على الشخص أن يشعر بالانفصال عن بقية زملائه مدة قصيرة من الوقت، لكن بمرور الوقت سيحل الشعور بالعزلة مكان الإحساس بأنك جزء من فريق، وبهذا ستشعر بأن هناك مزيدا من المسؤولية يقع على عاتقك".
وأوضح هوك "يمكن تشبيه الأمر بفيلم رعب، عندما يكون هناك مجموعة من الناس معا، فإنهم يشعرون بالأمان، ولكن إذا أصبحوا بمفردهم فإنهم ينظرون حولهم في كل اتجاه كلما سمعوا صوتا غريبا، لأنهم لم يعودوا يستفيدون من ميزة الأمان التي توفرها المجموعة".
ويتساءل الكاتب جون بي ميلو: ما الذي يمكن أن تفعله الشركات للحد من القلق لدى العاملين عن بعد؟
وتأتي الإجابة من جاسمين هنري، مديرة الأمن الميداني في شركة "جوبيتر وان" (JupiterOne)، وهي شركة مختصة في إدارة الأصول السيبرانية يقع مقرها في ولاية كارولينا الشمالية، "يجب أن تعمل فرق الأمن مع قادة الموارد البشرية والأفراد لتوسيع نطاق مبادرات التعليم بشأن السلوكات الآمنة عن بُعد والضوابط الأمنية الحالية للتخفيف من قلق الموظفين عن بُعد".
وأضافت "يجب على فرق الأمان في الشركات تثقيف موظفيها عن بُعد بشأن عناصر التحكم الحالية التي طُوّرت لتلائم إعدادات العمل المنزلي، بما في ذلك إدارة الأجهزة، وطرق الوقاية، ومنع فقدان البيانات".
وتابعت أن إدارات الأمن في المؤسسات والشركات "يجب أيضا أن تقوم بشكل واضح ومستمر بتثقيف فرق الأمن الخارجية التي تعمل معها حول ما هو متوقع بالضبط من الموظفين عن بعد، ليكونوا مسؤولين ويتبعوا سياسات الاستخدام المقبولة والآمنة".