logo

هيمنة الدولار على فوترة التجارة

03 ابريل 2022 ، آخر تحديث: 03 ابريل 2022
هيمنة الدولار على فوترة التجارة
هيمنة الدولار على فوترة التجارة

ترى النظرة التقليدية تجاه التجارة أن حجم صادرات وتجارة الدول الخارجية يحدد أهمية عملاتها. وافترضت هذه النظرة أن صادرات الدول تفوتر وتسعر بعملاتها ما يعني ارتفاع أهمية تلك العملات مع ارتفاع حجم الصادرات. ولو كان هذا صحيحا للزم أن تمثل الفوترة بالعملات الوطنية لصادرات دول العالم معظم صادراتها، ولغدت العملات الصينية واليابانية والكورية تمثل نسبا أكبر بكثير مما هي عليه حاليا، لكن الواقع المشاهد لا يؤيد هذه الفرضية. وبدلا من ذلك يستخدم الدولار الأمريكي في فوترة نسبة كبيرة من التجارة العالمية متجاوزة 70 في المائة في معظم مناطق العالم ما عدا القارة الأوروبية.

ثم بعد ذلك يأتي اليورو ثانيا في فوترة الصادرات العالمية، لكن يقل كثيرا عن العملة الأمريكية، ويتركز في القارة الأوروبية. يلي اليورو في الاستخدام، لكن بنسب متدنية، الين الياباني، ثم الجنيه الاسترليني، واليوان الصيني.

وتفوتر السلع العالمية وأهمها النفط والغاز الطبيعي، وكذلك المعادن التي أبرزها الذهب والفضة والنحاس والألمنيوم، إضافة إلى السلع الزراعية، بالدولار الأمريكي. ولا يقتصر الأمر على ذلك، حيث يفوتر طيف واسع من المنتجات بالدولار الأمريكي.

وبرزت إلى السطح أخيرا مسألة فوترة السلع بالدولار بعد قرار روسيا رفض فوترة صادرات الطاقة إلى الدول التي تفرض عليها عقوبات بعملات غير الروبل.

يتبادر إلى الذهن تساؤل عن أسباب هيمنة الدولار على فوترة التجارة العالمية. ولعل من أبرز عوامل هذه الهيمنة هو حاجة العالم إلى عملة عالمية لتبادل السلع والخدمات بعد التخلي عن الذهب والفضة اللذين يصعب عمليا استخدامهما بكفاءة وسرعة وكميات كافية لتنفيذ الكم الهائل من التبادلات التجارية العالمية، كما كان يفعل سابقا.

أما العامل الآخر لهيمنة الدولار، فهو التعود على التعامل به والهيمنة التاريخية الطويلة لاستخدامه في الفوترة، حيث يملك رصيدا تاريخيا طويلا يمتد لعشرات الأعوام. وترتفع ثقة الناس، خصوصا في المجالات المالية، مع ما تعودوا عليه، إلا إذا برزت منافع كبيرة وواضحة وموثقة في البدائل، أو ارتفعت مخاطر استخدام العملة المهيمنة.

رغم كل الجدل الذي يثار من الدول التي تخضع لعقوبات أمريكية حول هيمنة الدولار إلا أن هناك استقرارا في مستويات اعتماد الدولار وثبات في ثقة المتعاملين به، واستخدامه في التبادلات والمعاملات المالية على نطاق عالمي واسع. ويعود جزء كبير من هذه الثقة إلى مكانة الاقتصاد الأمريكي العالمية وتبوئه مركز الصدارة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وفي تجارة العالم السلعية والخدمية. كما يرجع إلى عمق الأسواق المالية الأمريكية وضخامتها ووفرة المنتجات المالية الداعمة لاستخدامات الدولار.

وتتمتع المصارف والأسواق المالية الأمريكية بإمكانات وقدرات هائلة على توفير التمويل بتكاليف منخفضة مقارنة بالأسواق الأخرى. وفي الجانب المؤسسي، يدعم الدولار مؤسسات مستقرة وقوية ومنظمة. ويقف على قائمة هرم النظام المالي الأمريكي مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي يتمتع باستقلالية كبيرة، ويملك خبرات واسعة في إدارة السياسة النقدية، ويسعى إلى الحفاظ على ثقة العالم باستخدام الدولار عملة عالمية، ويتمتع بقدر كبير من ثقة الأسواق المالية.

وتتمتع المؤسسات المالية الأمريكية بدرجة كبيرة من الاستقلالية، كما أن ضمانات وإمكانات حرية التجارة وحركة رؤوس الأموال المؤسسية والقانونية هي الأقوى عالميا.

على المستوى العالمي تسعر معظم السلع المهمة بالدولار الأمريكي ويجري تبادلها وفوترتها به. وتمثل السلع، كالنفط والغاز والمعادن والمحاصيل الزراعية، جزءا كبيرا من التجارة العالمية، وتتجاوز تجارة أهم السلع العالمية اليومية، وهو النفط، خمسة مليارات دولار هذه الأيام. من جانب آخر، تعد الولايات المتحدة أكبر مصدر للاستثمارات الخارجية، كما أنها أكبر مستقبل لها، وهذا يدعم استخدامات الدولار. كما تأتي الأسواق المالية الأمريكية أكبر الأسواق العالمية التي يستخدمها معظم الشركات العالمية الكبرى في التوسع والحصول على التمويل.

إضافة إلى ذلك، يدعم هيمنة الدولار الأمريكي تمثيله جزءا كبيرا من التمويل العالمي. وتفوق نسبة المطلوبات الدولارية على المصارف الأجنبية أي مطلوبات بعملات أخرى، بل قد تتجاوز 60 في المائة من إجمالي المطلوبات على المصارف في معظم أرجاء العالم. ويدعم هيمنة الدولار أيضا تمثيله جزءا كبيرا من الأصول الأجنبية للبنوك المركزية العالمية التي يقدر أنها لا تقل عن 60 في المائة من إجمالي أصول البنوك المركزية العالمية.

وتتدفق أموال أجنبية هائلة إلى سندات الدين الأمريكي ما يعبر عن الثقة الكبيرة بهذه العملة والاقتصاد الأمريكي، وتصل الملكية الأجنبية في الدين العام الأمريكي إلى نحو سبعة تريليونات دولار أو نحو ثلث الإجمالي. إضافة إلى ذلك تصدر معظم الدول سندات بالدولار للحصول على موارد مالية لتغطية عجزها.

الاستخدام، والقبول الموسع للدولار، والثقة العالية التي يتمتع بها، تقلل مخاطر استخداماته مقارنة بالعملات الأخرى. ويخفض تراجع مخاطر العملة تكاليف الاقتراض بها، لهذا قد تكون معدلات الفائدة على الدولار الأقل مقارنة بالسندات والقروض المقيمة بالعملات الأخرى، ما يحفز استخدامات الدولار في الفوترة والتسعير.

من جانب آخر، تسعى الشركات لخفض فروقات الأسعار مع المنتجين الآخرين ومخاطر تقلب العملات، لهذا يسعر كثير منها صادراته بالدولار، كما أن تسعير المنتجات بالدولار يتسق مع تسعير المواد الخام وكثير من المنتجات الأخرى بالدولار، ما يزيد هيمنة وسيطرة الدولار على الفوترة والتسعير.

*نقلا عن صحيفة "الاقتصادية".

جميع الحقوق محفوظة لموقع البوصلة الاقتصادي © 2024