قامت الحكومة التركية مؤخرا برفع نسبة الفائدة الى معدل17% لكن لماذا قامت بهذه الخطوة مع أنها كفيلة بانكماش الاقتصاد التركي؟ لبيان السبب لابد أن نتعرف على الثالوث المستحيل في السياسة النقدية:
تسعى جميع الدول للمحافظة على حرية تنقل رأس المال وكذلك استقرار سعر الصرف كما تسعى لللمحافظة على استقلالية سياستها النقدية ولكن هل يستطيع أي اقتصاد حقاً تحقيق هذا الثالوث في نفس الوقت؟
يشير ثالوث السياسة النقدية –إن صح تسميته بذلك- إلى المقايضات التي تواجهها الحكومة عند اتخاذ قرار بشأن السياسة النقدية في الاقتصاد. وتؤكد ثلاثية السياسة النقدية إلى أنه من غير الممكن أن يكون لديك الأهداف الثلاثة في ذات الوقت، ولكن يتعين عليك ترجيح اثنين من الخيارات الثلاثة التالية:
أولاً: استقلالية السياسة النقدية: المقصود باستقلالية السياسة النقدية هو أن يكون البنك المركزي لديه القدرة الكاملة على اتخاذ القرارات الصحيحة بعيدا عن أي عوامل خارجية، مثل تحديد أسعار الفائدة بمعزل عن أي تأثيرات خارجية حيث يقوم البنك المركزي بتخفيض معدلات الفائدة من أجل تحفيز النمو الاقتصادي أو يقوم برفع الفائدة من أجل محاربة التضخم.
ثانياً: حرية حركة رأس المال: ويشير هذا حرية تحرك الأموال من وإلى الاقتصاد دون أي عوائق، أي قدرة المستثمرين على إدخال وإخراج الأموال من وإلى البلد بحرية تامة.
ثالثاً: ثبات واستقرار سعر الصرف: حيث يقوم البنك المركزي بتثبيت سعر صرف العملة أمام العملات الأجنبية الأخرى.
وأثبتت التجارب أنه من الصعب تحقيق الأهداف الثلاثة معاً وخصوصاً في الاقتصاديات النامية والناشئة. حيث يشير المثلث المستحيل إلى أنه يتعين على الحكومات ترجيح هدفين من الثلاثة على النحو التالي:
A : سعر صرف ثابت + حرية حركة رأس المال.
B : استقلال البنك المركزي + حرية حركة رأس المال.
C : سعر صرف ثابت + استقلال البنك المركزي.
ولتبسيط الأمر نفترض المثال التالي: يوجد هناك دولتين وهما الدولة
والدولة (X). ولنفترض بأن الدولة
لديها سعر صرف ثابت بين عملتها وعملة الدولة (X)، وأن معدل الفائدة في الدولة
هو 5% وكذلك معدل الفائدة في الدولة (X) هو 5% أيضاً، وتسمح الدولة (X) بحرية تنقل رأس المال. فإذا حدث وقررت الدولة (X) تطبيق سياسة نقدية مستقلة وقامت بتخفيض سعر الفائدة من 5% إلى 3% فإن النتيجة الطبيعية لهذا القرار هو أن المضاربين والمستثمرين سيقومون بسحب أموالهم (ودائعهم) من الدولة (X) ذات سعر الفائدة الأقل والتوجه لاستثمارها في الدولة
ذات سعر الفائدة الأعلى. ومع زيادة الطلب على القروض ستضطر الدولة (X) لضخ المزيد من العملة مما سيؤدي إلى حدوث تضخم وستنخفض قيمة العملة ولكي تعالج الدولة (X) هذا الإنخفاض سيلجأ البنك المركزي لبيع ما لديه من إحتياطي النقد الأجنبي. وعندما يُستنزف هذا الاحتياطي سيُهدد هذا قيمة العملة المحلية في الدولة (X) وفي النهاية سينهار كل شئ. إذا فإن الدولة يمكنها أن تختار وترجح إثنين فقط من الأهداف الثلاثة المكونة لهذا الثالوث.
وهناك الكثير من الأمثلة الحقيقة في الواقع، في عام 1992 قررت حكومة المملكة المتحدة التخلي عن إدارة سعر الصرف لاستعادة السيطرة على السياسة النقدية واستقلالها. من بعد العام 2000 والصين تضع ضوابط على تحركات رأس المال بهدف ضبط اليوان عند مستوى معين تريده من أجل تعزيز تنافسية الصادرات الصينية، كما ترغب في معدلات فائدة منخفضة لتعزيز النمو الاقتصادي. وفي 2016 أعادت الحكومة الصينية تعزيز ضوابط حرية رأس المال لذات الهدف السابق.
وفي عالمنا المعاصر نجد أن أغلب الاقتصاديات الناشئة تعاني من عدم القدرة على تحقيق هذه الأهداف الثلاثة معا. بالإضافة إلى مشاكل هذه الاقتصاديات.
لذلك تلجأ الدول للتخلي عن أحد الأهداف المكونة لهذا الثالوث وفي الغالب يكون سعر الصرف. لأن معدلات الفائدة المرتفعة مضرة بالاقتصاد وتدفعها للانكماش وهو ما لا تريده أي حكومة أما فرض قيود على حرية رأس المال فهو أيضا يدفع الأموال الأجنبية لعدم القدوم للاقتصاديات الناشئة في حال وجود قيود على حريته علاوة على أن أغلب هذه الدول تعاني من عجز في الفجوة الخارجية وبالتالؤ فهي بحاجة دائمة لتدفق رأس المال الأجنبي.
لذلك نجد أن الليرة التركية فقدت حوالي 71% من قيمتها منذ نهاية 2013 حتى نهاية 2020. وأخيرا عندما حاول البنك المركزي وقف النزيف في سعر الصرف لجأ لرفع معدل الفائدة ليصل إلى 17% حاليا. أي اختارت الحكومة التركية المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة ووقف تدهوره ولكن المقابل معدل فائدة مرتفع سيقود الاقتصاد للانكماش أو تراجع معدل النمو في ظروف صعبة.
كتبه/محمد أبو عليان