عندما يدور الحديث عن هدر الطعام على المستوى العالمي، فإن الأرقام تبدو مزعجة ومقلقة ومثيرة للاستياء.
سنويا يفقد أو يهدر أكثر من مليار طن من الغذاء، أي ما يعادل ثلث الطعام المخصص للاستهلاك البشري حول العالم، في
وقت لا يزال واحد من كل تسعة أشخاص على المستوى الدولي يعاني نقص التغذية
ويؤدي هذا الفقد أو الإهدار إلى خسائر اقتصادية تقدر بنحو 940 مليار دولار سنويا.
نفايات الطعام
ويقدر الباحثون أن 61 في المائة من نفايات الطعام تأتي من المنازل، و26 في المائة من خدمات الطعام، و13 في المائة من البيع بالتجزئة.
وتشير التقديرات إلى أن الأغذية المهدرة تستخدم 25 في المائة من إمدادات المياه في العالم، وإذا تخيلنا مخلفات الطعام
كدولة، فستكون ثالث أكبر دولة في العالم مسؤولة عن الانبعاثات الغازية بعد الصين والولايات المتحدة، إذ يسهم هدر الطعام
في إنتاج ثلاثة مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون كل عام، ويبلغ الهدر في الأسماك والمأكولات البحرية 35 في المائة
والحبوب 30 في المائة والبقوليات والمكسرات 20 في المائة ومثلها في اللحوم والألبان.
تحتل قضية هدر الطعام أهمية كبيرة لما لها من أبعاد اجتماعية واقتصادية متعددة، فلا شك أن للقضية جانبا أخلاقيا وإنسانيا
في ظل تقدير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، بأن هناك نحو 690 مليون شخص عانوا الجوع حول العالم 2019،
وسط توقعات بأن ترتفع تلك الأرقام نتيجة الأزمة الناجمة عن وباء كورونا.
يضاف إلى هذا البعد الأخلاقي والإنساني أبعاد اقتصادية شديدة الأهمية والخطورة، حيث أظهرت جائحة كورونا هشاشة سلاسل الإمداد الغذائية العالمية.
المطاعم
ويكفي القول إن عديدا من المحال التجارية والمطاعم في كل بلد تقريبا عانى نقص الغذاء خلال ذروة الجائحة، حتى بعد تراجع
الوباء نسبيا فلا تزال دول متقدمة مثل المملكة المتحدة أحد أقوى الاقتصادات في العالم تعاني نقص مخزونها من المواد
الغذائية، ما دفع أحد المطاعم الشهيرة إلى إغلاق عديد من فروعه لعدم توافر المنتجات الغذائية، التي يقدمها.
كما توقفت مطاعم أخرى عن تقديم بعض الأطعمة الموجودة على قوائم الطعام لديها، ويضج حاليا كثير من المحال التجارية
البريطانية بالشكوى من نقص المواد الغذائية أو تقلص مخزوناتها من عديد من المواد الغذائية الأساسية.
وقالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة ريث لويس، أستاذة الاقتصاد الزراعي في جامعة ليدز، "نقص الغذاء كان سائدا قبل وقت طويل من انتشار وباء كورونا
لكن تفشي الوباء أدى إلى استفحال الأزمة، وبصفة عامة يمكن القول إن البلدان ذات الدخل المرتفع تهدر قدرا من الغذاء يوازي ما تنتجه جميع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء
ويبلغ حجم إهدار الطعام في الولايات المتحدة نحو 40 في المائة بتكلفة سنوية تقدر بـ218 مليار دولار أو 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي".
وتضيف "ما يجب التركيز عليه في تلك القضية يتعلق بتكلفة الفرصة البديلة لوقف عمليات الإهدار، فبحلول 2030 سيمثل الحد
من هدر الطعام فرصة اقتصادية بقيمة تراوح بين 155و405 مليارات دولار، عبر تخفيف الضغط على أنظمة إدارة النفايات،
وتحقيق مزيد من الأمن الغذائي، وتحقيق مزيد من التنوع البيولوجي".
يشير عديد من الخبراء إلى أن الحديث عن هدر الطعام يبدو في كثير من الأحيان مصطلح عام يساوي بين الجميع دون البحث بشكل حقيقي في جذور وأسباب الهدر
فكثير من الدراسات تشير إلى أن هدر الأغذية الاستهلاكية مشكلة حصرية في البلدان المتقدمة، أما في البلدان النامية، فإن
هدر الطعام ينجم أساسا عن سوء عمليات الإنتاج والتخزين والنقل ومن ثم يرتبط أكثر بغياب البنية التحتية أو عدم تطورها.
في هذا السياق، يؤكد لـ"الاقتصادية" الباحث الاقتصادي إيد برنسون، "تفقد البلدان الصناعية والنامية كميات الغذاء نفسها
تقريبا، ولكن الجزء الأكبر من الخسائر في البلدان النامية يكون في مرحلة ما بعد الحصاد نتيجة محدودية مرافق التخزين أو
قنوات التوزيع غير الفعالة، التي لا تتسم بالكفاءة. أما في البلدان الصناعية، فإن أكبر الخسائر تقع على صعيد البيع بالتجزئة
والمستهلكين، فارتفاع المعايير الواجب توافرها في المواد الغذائية يؤدي إلى رفض المحال التجارية والمستهلكين عديدا من
الأطعمة الجيدة والصالحة للاستخدام، ولكنها لا تلبي معاييرهم المتعلقة بالحجم واللون".
ويضيف، "يمثل الغذاء في البلدان المتطورة جزءا صغيرا نسبيا من الإنفاق الاستهلاكي، ما قد يؤدي إلى الإفراط في الشراء
والتخلص من الطعام بسهولة أكبر، ففي الولايات المتحدة مثلا يهدر المستهلك ما يراوح بين 95 و115 كيلو جرام سنويا من
الغذاء، مقارنة بـ 6-11 كيلو جرام في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفي جنوب شرق آسيا".
وتشير الدراسات إلى أن الناس تهدر الطعام على أربعة مستويات: المنتج والموزع والبائع والمستهلك. في هذه المستويات
يتم التخلص من ثلاثة أنواع من الطعام "الطعام الفاسد، والطعام الذي نعتقد أنه سيئ، والطعام الذي نعرف أنه لا يزال قابلا للاستهلاك لكننا لا نريده".
وعندما يتم التخلص من الأطعمة غير القابلة للاستهلاك، فعادة ما يكون ذلك بسبب مشكلات في التعبئة والتغليف والتخزين
والنقل، كما يتم هدر الطعام أيضا، حيث إن المستهلكين والبائعين يخزنون أكثر من طاقتهم في كثير من الأحيان.
وفي المتوسط، فإنه في البلدان المتقدمة يلقي المستهلكون نحو خمس مشترياتهم من المنتجات الغذائية في مكبات
النفايات. وكشفت دراسات في هذا السياق أن الطعام السيئ الطعم بشكل واضح لا جدال فيه يمثل أصغر جزء من الطعام،
الذي يهدر. وفي المتوسط، فإن نحو 90 في المائة من الطعام، الذي يلقى في القمامة يمكن تناوله بأمان، ومن ثم فأكبر فئة
من نفايات الطعام هي الطعام، الذي نعتقد أنه سيئ، ولكنه لا يزال من الممكن استهلاكه بالفعل.
وأوضح لـ"الاقتصادية" فيليب هارلي، الخبير الاقتصادي السابق في منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" تأثير سياسات الحد من
هدر الطعام بالقول، "خفض معدلات الهدر سيؤدي حتما إلى وفرات في عمليات شراء الأغذية غير الضرورية لكن من ناحية
أخرى، فإن انخفاض الطلب على الغذاء والإنتاج يؤدي إلى فقدان الوظائف. في ألمانيا على سبيل المثال أدت سياسات الحد
من كميات الطعام المهدور إلى توفير 30 مليار دولار، لكنها أدت إلى فقدان 600 ألف وظيفة".
وأشار هارلي إلى أن التكاليف المحيطة بهدر الطعام وسياسة الحد منه معقدة، حيث زاد هدر الطعام 204 في المائة منذ
1960 حتى اليوم، ولكن الحكومات والشركات تتخذ إجراءات استباقية بشكل متزايد لمكافحة تلك الظاهرة، ما قد يؤدي إلى تبعات اقتصادية لم تتضح بعد.