لا بد أن داربا Darpa هي أكثر هيئة حكومية روعة في أمريكا. يشير هذا الاختصار إلى "وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة". هؤلاء هم الأشخاص، لمن لا يعلم بالفعل، الذين اخترعوا الإنترنت، وفأرة الحاسوب، والتكنولوجيا اللاسلكية، والمركبات غير المأهولة في عمق البحر، وطائرات الشبح، ونظام تحديد المواقع العالمي المحمول، والأطراف الصناعية، ومئات الأشياء الأخرى التي حولت الخيال العلمي إلى حقيقة.
مصطلح "الأشخاص" صحيح في الأغلب. فالعديد من هؤلاء الأشخاص الذين عملوا هنا منذ إنشاء الرئيس أيزنهاور للوكالة عام 1958 لمواجهة إطلاق روسيا صاروخ سبوتنك، يبدو كأنهم خرجوا مباشرة من أدوار نمطية في فيلم عن الحرب الباردة، مرتدين إما نظارات سميكة وقمصانا بيضاء، وإما طقما عسكريا مموها وأحذية برباط وقصة شعر قصيرة.
في صباح بارد في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) كان هناك عدد قليل من هذه الأنواع في ردهة المقر الرئيسي للوكالة في أرلينغتون، فرجينيا. لكن كان هناك أيضا العديد من الشباب في العشرينات ممن يرتدون السترات ويحملون أجهزة الحاسوب المحمولة، ربما كانوا جزءا من فريق العمليات الرقمية التابع للوكالة، إضافة إلى عدة نساء ومجموعة من الشخصيات التي لا يتوقع المرء أنها تعمل في وزارة الدفاع.
أنا هنا لمقابلة أحدهم: مولي جان، وهي عالمة نبات، ومستشارة مخاطر زراعية، وأستاذة في الهندسة الزراعية في جامعة ويسكونسن، وواحدة من بين أحدث 12 مديرا للبرامج في مكتب الدفاع العلمي في وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة، كل منهم يترأس مجالا رئيسيا لتطوير التكنولوجيا. إنها صاحبة الهدف الأوسع إلى حد ما لإعادة ابتكار العملية بأكملها التي يتم من خلالها صنع الطعام.
إذا بدا لك ذلك أمرا طموحا، فهذا فقط لأنك لا تعمل هنا. وكما شرح لي أحد الموظفين: "إذا أتيت إلى وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة ولم تخترع الإنترنت، فستحصل على علامة B". الأشخاص الذين يتركون حياتهم النبيلة العادية بالفعل ليأتوا ويعملوا هنا لعدة أعوام يميلون ليكونوا في العادة طلابا مميزين. ويميلون لأن تكون أحلامهم كبيرة.
يتمثل التحدي في مشروع جان ومدته أربعة أعوام، ويطلق عليه اسم "كورنوكوبيا"، في إنشاء نظام غذائي عالمي جديد يلبي احتياجات الإنسان بشكل أوثق من الذي لدينا حاليا. "هل يمكننا تحويل نموذجنا الغذائي بالكامل بطرق يمكن أن تضمن الأمن القومي، وتقلل من استخدام الطاقة، وتنتج نظاما أكثر صحة؟" تسأل، بشكل بليغ. (جان، من ناحية رؤية الأستاذة، معجبة بالأسئلة البلاغية). "هل يمكن أن ينتج الكون غير المكتشف، بشكل نسبي، من الميكروبات والبكتيريا والفطريات العناصر الغذائية في غضون ساعات أو أيام – أسرع بكثير من الذي يتطلبه الأمر لزراعة المحاصيل في الحقل؟" الإجابة: نعم. في الواقع، يتم إجراء بعض من هذا بالفعل في المعامل حول العالم.
لكن ماذا لو استطعت أن تأخذ هذا المفهوم المتمثل في صنع الطعام ليس من الحيوانات أو حتى النباتات، بل من الميكروبات واستخدامه لتحقيق اللامركزية في إنتاج الغذاء نفسه؟ "ماذا لو استطاع كل واحد إنتاج المكونات الأساسية للاحتياجات المنزلية؟"، تواصل جان: "ماذا لو كان الطعام أشبه بالهواء، بحيث لا يستطيع أحد التحكم فيه بسهولة ويمكن للجميع أن يصبحوا مزارعين إن احتاج الأمر؟ إذا كنا نريد حقا أن نجعل العالم أفضل، فإن منح الأفراد مزيدا من التحكم بطعامهم ليس فقط أكثر أمانا، لكنه أيضا أكثر تمكينا. ربما ينبغي أن يكون لدى كل شخص أداة يمكنها تحويل الهواء والماء إلى مادة أساسية، أو على الأقل دعم أنظمة الغذاء عند فشلها".
أداة تصنع الطعام من لا شيء تقريبا هي أمر يوجد في فيلم ستار تريك. لكن في أعقاب جائحة أظهرت لنا مدى ضعف أنظمتنا الغذائية وسلاسل التوريد العالمية، فإن هذه تعد فكرة حان وقتها. وجان واحدة من بين عدد قليل من الأشخاص الذين لديهم سيرة ذاتية وموارد تجعل الفكرة أقرب للواقع.
تنحدر جان من عائلة كندية تشتهر باستيلاد النباتات، ودرست في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كورنيل، وبدأت حياتها المهنية في تسلسل الجينات. وانتهى بها الأمر إلى العمل في جامعة كورنيل، وخلال ذلك تم تمويلها من قبل مؤسسة العلوم الوطنية ووزارة الزراعة الأمريكية لإجراء أبحاث في علم الأحياء النباتية.
عقب تشخيصها بشكل خاطئ بمرض عضال في طفولتها، أصبحت جان "شديدة التركيز" ومندفعة نحو الهدف. في جامعة كورنيل، كانت وظيفتها الصباحية هي ابتكار أنواع مختلفة وجديدة من النباتات. تقول بفخر: "لا يمكنك السير في ممر متجر في الولايات المتحدة اليوم دون رؤية أحد أصنافي". وهذا يضم نوع اليقطين المسمى ديليكاتا وبطيخ هانا المفضل، المسمى على اسم ابنتها.
بعد فترة قضتها في منصب عميدة كلية الزراعة في جامعة ويسكونسن ماديسون، فازت بمنحة بملايين الدولارات من وزارة الطاقة للتوصل إلى طرق لتقليل انبعاثات الكربون في "العلاقة بين الغذاء والماء والطاقة". في عام 2009، تم تعيينها من قبل إدارة أوباما الأولى للعمل نائبة وكيلة وزارة بالإنابة داخل وزارة الزراعة الأمريكية لتحويل بحث الوزارة القائم على الإنترنت والجامعة نحو هذه التحديات.
هناك بدأت ترى كيف يتم بالفعل تعزيز المشكلات داخل النظام من قبل الحكومة. بصفتها وكيلة وزارة البحث والتعليم والاقتصاد، كان لدى جان وكالتان إحصائيتان اتحاديتان في محفظتها، جنبا إلى جنب مع وكالات البحث الداخلية والخارجية التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية. ومع ذلك، كانت ميزانيتها أقل من 1 في المائة من إجمالي ميزانية الوكالة. كانت معظم الأموال في سناب Snap، وهو اختصار لبرنامج المساعدة الغذائية التكميلية، المعروف أيضا باسم قسائم الطعام. ووجدت أن الإصلاح كان مزعجا بسبب المصالح المكتسبة التي، نتيجة لعقود من التغييرات التدريجية في السياسة، أصبحت تستفيد بشكل كبير من البرنامج.
من بين العديد من نقاط الضعف التي كشفت عنها جائحة كوفيد - 19، كان أحد أكثر نقاط الضعف المسببة للخوف هو الاختلال في قلب نظامنا الغذائي. الأمريكيون على وجه الخصوص معتادون على الأطعمة غير المكلفة والكثيرة. حيث تم تصميم نظامنا بالكامل "للتكديس بشدة والبيع بسعر رخيص"، كما تقول حكمة البقال القديم. ففي عام 1930، كانت الأسرة الأمريكية المتوسطة تنفق 24.3 في المائة من دخلها على الطعام. وبحلول عام 2007، انخفض هذا الرقم إلى 9.8 في المائة. وذلك لأن النظام الغذائي في أمريكا، مثل معظم دول العالم، أصبح أكثر تركيزا وتصنيعا وعولمة بشكل كبير خلال تلك الفترة.
تسيطر ثلاث شركات الآن على 70 في المائة من الكيماويات الزراعية. و90 في المائة من محصول الحبوب العالمي تسيطر عليه أربع شركات متعددة الجنسيات. وتسيطر تسع شركات أغذية على ما يتم شراؤه وبيعه في منافذ البيع بالتجزئة. وعلاوة على ذلك، يأتي 60 في المائة من إمداداتنا الغذائية من ثلاثة محاصيل فقط – الذرة والقمح والأرز – التي يتحكم في إنتاجها عدد قليل من الشركات الزراعية والكيماوية الكبرى. وأصبحت الزراعة فعالة بشكل كبير: فقد ضاعف المزارعون الأمريكيون إنتاجهم للفدان ثلاث مرات تقريبا على مدار الـ70 عاما الماضية.
كانت تكاليف هذه الكفاءة مختبئة على مرأى من الجميع حتى كشفتها الجائحة. لنأخذ ممارسات العمل المروعة في صناعة تعليب اللحوم عالية التركيز، مثلا، حيث يضطر بعض العمال إلى قطع الحيوانات إربا بسرعة لدرجة أنه لا يكون لديهم الوقت لتغطية أفواههم عند السعال. وكانت النتيجة أن صناعة اللحوم خضعت لمزيد من التدقيق عما كانت عليه منذ أن كتب أبتون سنكلير كتاب "ذا جنغل" في عام 1906. في الولايات المتحدة، تنافس شركات المواد الغذائية الكبرى الآن شركات التكنولوجيا الكبرى باعتبارها محورا لإجراءات مكافحة الاحتكار. بدأت وزارة العدل تحقيقات في شركات تيسون فودز، وكارجيل، وناشونال بيف، وجيه بي إس إس أيه.
تصمد الصناعة في وجه الانتقادات الشديدة، لكنها اتبعت الخط الذي رسمته لها سياسة الحكومة منذ سبعينيات القرن الماضي. يعد التركيز في سلاسل الإمداد الغذائي جزءا من تحرك على مدى عقود كثيرة نحو السياسات التي أعطت الاقتصاد العالمي الأولوية على المرونة الوطنية. لقد كانت عملية مطردة من التعديلات الصغيرة على مدى أعوام عديدة. في كثير من الأحيان، بدأت التغييرات على شكل أفكار جديرة بالاهتمام لتلبية الاحتياجات المشروعة ثم تحولت ببطء إلى حوافز أضعفت استقرار النظام بأكمله.
مشروع سناب، مثلا، جاء من إدراك، في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، أن الفوائض الزراعية يمكن استخدامها لإطعام الجياع في المدن. ومع توسع البرنامج في الستينيات والسبعينيات، وأصبح مسؤولية وزارة الزراعة الأمريكية، بدأ في تغذية نظام يدور حول خفض أسعار المواد الغذائية. ودفع الضغط لإبقاء الأسعار منخفضة جزئيا الصناعة إلى تعزيز الكفاءة ومتابعتها قبل كل شيء.
وهذا سبب رئيسي في أنه في أثناء الجائحة اضطر المزارعون إلى تدمير المحاصيل والتخلص من الحليب، حتى مع وجود طوابير في المتاجر حين لجأ الناس إلى تخزين البضائع استعدادا لعمليات الإغلاق. لماذا؟ لأن النظام المصمم لتعزيز "الكفاءة" أدى إلى سلسلتي توريد منفصلتين تماما – إحداهما تدعم المتاجر والأخرى تدعم المطاعم والمؤسسات الأخرى مثل المدارس والمستشفيات. وعندما انهار الطلب في سلسلة التوريد الثانية بفضل عمليات الإغلاق المرتبطة بالجائحة، ارتفعت أسعار البقالة في البداية.
تشير جان إلى أن العالم، وأمريكا على وجه الخصوص، يعمل الآن على "مطحنة السلع" التي تعمل فقط "إذا لم يتم احتساب التكاليف على البيئة في المعادلة، وهو ما يشبه التظاهر بأن التآكل والمنطقة الميتة في خليج المكسيك ومقاومة المضادات الحيوية – من بين أمور مخيفة أخرى – لا تحدث". مهمة جان الأولى في الحكومة أقنعتها بالبحث في مكان آخر عن حلول.
حجم ونطاق النظام الزراعي يجعل التغيير صعبا للغاية. وبالطبع، لا يقتصر الأمر على الزراعة، بل يشمل أيضا سلاسل التوريد، والتصنيع، وعلوم المواد وغيرها. وتعرف جان في بعض الأوساط الأكاديمية والدفاعية بـ "مفكرة الأنظمة". فكلما كانت المشكلة أكثر تعقيدا وذات أوجه متعددة، زاد اهتمامها بها.
وعندما تعمقت في علم الوراثة النباتية، مثلا، أصبحت تركز على الضرر الذي يلحقه البشر بالبيئة وباتت مقتنعة بأن المشكلات داخل النظام الغذائي تتسبب فيها أمور أخرى غير الطعام. تقول إن الزراعة التقليدية التي كان ينبعث عنها مقدار كبير من الطاقة في النظام، فيما كانت مشكلة السمنة عبارة عن إدخال الكثير من السعرات الحرارية في النظام البيولوجي.
تتابع: "لقد أصبحت مقتنعة أكثر فأكثر بأن البشر يقودون الكوكب بعيدا جدا خارج حدوده التاريخية. ما اتضح لي هو أن الزراعة تعد إحدى الطرق الرئيسة التي تصرف بها البشر بطريقة ديناميكية من الناحية الحرارية على هذا الكوكب". المشكلة تكمن في تعاملنا مع الوفرة كاستراتيجية لإدارة المخاطر. ربما قد يكون هذا الأمر قد حصل حقا في وقت مبكر من تاريخ البشرية، إلا أن تبعاته بدأت في الظهور لنا الآن.
ومع تقدم مسيرتها الأكاديمية، بدأت جان تلاحظ مواطن الخطر على امتداد السلسلة الغذائية الأمريكية بأكملها. مثلا، تتدفق معظم إمدادات الدولة من الفاكهة والخضراوات من خمس مقاطعات في ولاية كاليفورنيا معرضة للزلازل، وحرائق الغابات، والجفاف وعدم المساواة الاقتصادية. كل هذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار، وتضخيم الأحداث الصغيرة إلى مشكلات أكبر من حجمها. تشرح قائلة: "من الأمور التي تلزمك بالبحث عنها إذا كنت مهتما بعمل الشبكة هو، أين يكمن مركز المخاطر؟ وأين يتقاطع الفقر الغذائي، مع انعدام الأمن المالي، والصحة والأمن القومي؟". كلها تشير إلى بعض الأماكن فقط.
كان مبدأ "قيمة" المساهم هو الدافع وراء هذا الضعف أيضا. خلصت جان إلى أن الأشخاص الذين يمكنهم إحداث تغيير سريع في الأمور هم أولئك المرتبطون بالتمويل، وليس في الحكومة. لندخل تريفور ماينارد في الموضوع، وهو رئيس المخاطر المستجدة في شركة لويدز للتأمين في لندن. كان ماينارد قد سمع عن عمل جان وطلب عقد اجتماع معها. في عام 2014، استقلت جان الطائرة متجهة إلى لندن، وكما قالت: "جئت حاملة معي جميع أكوام أوراق البحث الخاصة بي"، وكانت على استعداد لنشرها في عرض تقديمي مطول حول المخاطر الكامنة في العلاقة بين الغذاء والمياه في العالم.
أخبر ماينارد، وهو خبير في شؤون التأمين وصاحب رأي واضح، جان أن ما يحتاج إليه هو "سيناريو من صفحتين يسرد المخاطر النظامية القصوى والمعقولة التي تتعلق بالنظم الغذائية مع إمكانية التفرع منها إلى قطاعات أخرى". إذا كان بإمكانها توفير هذا السيناريو، فربما يصبح بإمكانه إقناع مجلس إدارته بأن صناعة التأمين بحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية تغطية صناعة الأغذية. فإذا كانت شركات الأغذية معرضة لخطر فقدان التأمين عليها، فقد تبدأ الأمور في التغيير.
عادت جان إلى منزلها في ويسكونسن، وجلست على طاولة المطبخ وبدأت التفكير في سيناريو ينطوي على مخاطر كافية تتسبب في إحداث خلل في الإمدادات الغذائية العالمية وتتسبب في جميع أنواع الأضرار. لم تكن الفكرة التي ستقدمها لشركة لويدز تتمثل في طرح سيناريو لشيء ما قد يحدث، بل كانت تتمثل في سيناريو لشيء سيحدث بالتأكيد مع مرور الوقت.
لم يكن عليها أن تبحث في التاريخ كي تتوصل إلى أحداث يمكن ربطها بنموذجها المقترح. فقد أدركت أنها إذا ربطت ظاهرة النينيو في أحد الأعوام المقبلة، وهو العام الذي تؤدي فيها التغيرات في الهواء وحالات المد والجزر إلى نشوء أنماط غريبة في الطقس، وإذا ما "أضفت حدثين آخرين مرة واحدة، بطريقة غير مبالغ فيها، كحدوث فيضان أو حريق كبير آخر، سيظهر لك حينها فجأة سيناريو يتسبب في خفض إنتاج جميع محاصيل السلع الأساسية – مثل الذرة، والأرز، وفول الصويا - بنسبة 5 إلى 10 في المائة". بعد ذلك، ستبدأ قطع الدومينو المفترضة في التساقط بسرعة، مع تدهور أسواق الأسهم وحدوث مجاعات عالمية ستؤدي بالتالي إلى عدم استقرار سياسي ونشوب صراعات جيوسياسية.
عادت جان للقاء ماينارد لمناقشة النتائج التي توصلت إليها. وفي عام 2015، كلفت شركة لويدز كلا من جان وزميلها، أليد جونز، بإجراء دراسة حول انعدام الأمن الغذائي والتمويل، إضافة إلى كتابة تقرير في عام 2019 لمتابعة التطورات. حظيت هذه الدراسة باهتمام كبير داخل مجتمع الاكتتابات العامة والتأمين، وبدأت في دفع الشركات للحصول على مزيد من المعلومات حول سلاسل التوريد الخاصة بها، وخطر التعرض لتقلبات الطقس وآليات الاستعداد العام لمواجهة الظروف القاسية.
في غضون ذلك، أصبحت شتى المجالات الأمنية في الولايات المتحدة، وأوروبا، وأستراليا، ونيوزيلندا وبلدان أخرى مهتمة بالعمل الذي قدمته جان. وبالحديث إليهم، باتت جان مقتنعة بأن وزارات الدفاع قد تصبح لاعبا رئيسا آخر في إحداث التغيير المنشود. قالت: "هناك ارتباط ما بين وزارة الدفاع، والأمن الغذائي، والأزمات الإنسانية في جميع أنحاء العالم" وتشير إلى أن في نحو 80 في المائة من تلك الأزمات، ينتشر الجيش الأمريكي بشكل ما. ويتعلق معظم هذه الأزمات بالغذاء وأمن النظم الغذائية.
ومنذ عام 2016، التقت جان عددا من المسؤولين العسكريين والسياسيين الذين يشاركونها الشعور بالقلق من أن يصبح الغذاء سلاحا مستخدما في أي صراع مستقبلي. فما كان يبدو أمرا مبالغا فيه إلى حد ما في عام 2019 يبدو الآن مرئيا مع اقتراب عام 2022. فقد أصبح الغذاء نقطة محورية في الانفصال بين الولايات المتحدة والصين والإطاحة بعولمة سلاسل التوريد بشكلها الأوسع. لماذا ارتفعت أسعار لحوم الخنزير بعد انتشار الجائحة؟ لأن أكبر منتج للحوم الخنزير في الولايات المتحدة، شركة سميثفيلدز، مملوكة من قبل شركة تربطها علاقات مباشرة مع الحكومة الصينية، وهي تريد تصدير لحم الخنزير المتوافر من أجل إطعام شعبها. كانت الصين أيضا، على مدار أعوام عديدة ماضية، تشتري الموانئ، والأراضي الزراعية، وبنوك البذور، وشركات التكنولوجيا الزراعية الرئيسية في جميع أنحاء العالم.
أصبح الغذاء أساسيا لأنواع متعددة من الدفاع كجزء من الطبيعة المتغيرة للحرب، التي قد لا تتمحور حول الأنظمة الصاروخية بل تتركز على مرونة الأنظمة عالية التكنولوجيا والمتصلة، مثل الزراعة. كل ذلك يؤدي إلى وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة، حيث يتم إطلاق برنامج الأمن الغذائي الذي أعلنت جان عنه أخيرا بهدف تغيير طريقة إنتاج المواد الغذائية وتوزيعها بشكل جذري. إذا نجحت الوكالة في ذلك، النتائج بعيدة الأثر.
إن "الأداة" التي تصنع الطعام من لا شيء هي بالضبط الطريقة التي استخدمها طاقم الملاحة في ستارشيب إنتربرايز لإطعام أنفسهم. وحتى وفقا لمعيار الخيال العلمي في ستينيات القرن الماضي، فإن ذلك يبدو احتمالا ضئيلا. غير أن الشركات في أجزاء مختلفة من العالم تعمل بالفعل على ذلك، عن طريق طرح برامج نموذجية تستخدم الحد الأدنى من الطاقة لتحويل الميكروبات إلى طعام. فالميكروبات، في نهاية المطاف، موجودة حولنا في كل مكان. ونحن نتناول تريليونات منها كل يوم، كجزء من مكونات طعامنا. لكن جهود القطاع الخاص الحالية صغيرة النطاق لأنها تركز بشكل حصري تقريبا على استخدام الميكروبات لإيجاد بروتينات معقدة التركيب، وبالتالي يجب أن تعتمد على معدات صناعية ثابتة.
إن الهدف من كورنوكوبيا هو رسم التكنولوجيا والعلوم اللازمة من أجل تمكين القوات الأمريكية، مثلا، من إطعام نفسها في الظروف القصوى التي لا يمكنها فيها الاعتماد على أي شيء سوى مولد الطاقة الخاص بها، والهواء والماء. وكما يوضح البيان الصحافي حول البرنامج، فإن "الكربون، والنيتروجين، والهيدروجين، والأكسجين الموجودة في الهواء والماء" يمكن تحويلها إلى مزيد من الميكروبات التي تنتج جزيئات الطعام، بما في ذلك البروتينات، والدهون، والكربوهيدرات، والألياف الغذائية – على شكل مواد غذائية آمنة وذات طعم مستساغ باستخدام مصادر الطاقة المتنقلة.
للقيام بذلك، تجمع جان بعض الجهود التجارية الحالية مع أبحاث أخرى من القطاعين العام والخاص، وأكاديميين وعاملين في مجال الدفاع. وباستخدام تكنولوجيا الهندسة الكيماوية والبيولوجيا التركيبية، تقوم جان وفريقها بتقسيم الماء والهواء إلى عناصر مكونة، ومن ثم تركيبها حتى تكون أنواعا جديدة من الميكروبات. ويمكن استخدام هذه الميكروبات في نهاية المطاف لإنتاج أنواع مختلفة من الطعام، لتحل محل الوجبات العادية التي تصرف للجنود.
إذا بدا أن هذا الشيء من غير المرجح أن يحدث، فقط تذكر: كذلك كانت أبحاث الحمض النووي الريبوزي المرسال عندما استثمرت وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة فيها منذ أعوام. تقول جان: "نريد أن نكون قادرين على صنع نكهات وقوام وأنواع مختلفة من الطعام". ومن أجل بدء المشروع، لم يكن على جان إثبات أن جهاز صنع الغذاء من لا شيء كان قابلا للإنتاج. بل كان عليها أن تثبت أنه كان ممكنا رياضيا. تقول: "إنني أجتهد في دفع الحدود كثيرا. لكني أعيش في عالم قوانين الديناميكيات الحرارية".
لقد ابتكر فريقها بالفعل محلولا خاما من العناصر الغذائية يمكن أن يكون حاسما. لا يتم تنفيذ هذا العمل المخبري في مرافق وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة، بل بين العديد من شركاء المشروع من الشركات والأكاديميين. هذه هي الطريقة التي تجعل الوكالة بوتيرة سريعة، فهي مصممة بحيث تكون رشيقة وتستخدم في الأغلب باحثين متعاقدين يطلق عليهم اسم "المؤدين"، ممن يرغبون المشاركة في الأبحاث الطليعية. وتنسق جان جهودهم من مكتبها في أرلينغتون.
نظرا لأنها في وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة، يتعين على جان التفكير في الابتكارات التي تتضمن الدفاع الوطني والمرونة. لكن لدى مشروع كورنوكوبيا إمكانات تجارية هائلة. كما أنه ثوري للغاية. تقول: "قد يكون هذا نتيجة تجديد في النظم الغذائية كما فعلنا في آخر عشرة آلاف عام".