تخوض تركيا حربا معلنة لكبح جماح أسعار السوق التي ما زالت عند الذروة التي وصلتها مع كسر سعر صرف الدولار حاجز 18 ليرة قبل نحو 3 أسابيع من الآن.
عاد الدولار أدراجه لينخفض إلى 11 ليرة مع إعلان الآلية المالية الجديدة من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان، ثم عاود الكرّة في مسار الارتفاع ليلامس عتبة 14 ليرة مساء الاثنين الماضي، دون أن تشهد الأسواق انخفاضا في أسعار البضائع والخدمات.
وعززت المؤشرات الاقتصادية التركية الصادرة مع إغلاق العام 2021 مخاوف المراقبين والخبراء الاقتصاديين بإطالة مدى ارتفاع الأسعار التي تعكس مستوى التضخم العالي المسجل في البلاد على أقل تقدير، أما السيناريو الأسوأ فيتمثل في أن تشهد الأسعار ارتفاعا جديدا فوق الذي وصلت إليه حتى اليوم.
فقد أعلنت هيئة الإحصاء التركية يوم الاثنين الماضي ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك (التضخم) في البلاد بنسبة 13.58% على أساس شهري في ديسمبر/كانون الأول الماضي وبنسبة 36.08% على أساي سنوي (مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق).
ووفقا لبيانات الهيئة، فقد سجل مؤشر أسعار المنتجين المحليين ارتفاعا بنسبة 19.08% على أساس شهري في ديسمبر/كانون الأول الماضي، و79.89% مقارنة بالشهر ذاته من عام 2020.
ويربط الاقتصاديون الأتراك بين مستوى الزيادة في الأسعار والتي كانت تبلغ 54% عندما كان سعر صرف الدولار 11 ليرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبين ما ستصل إليه هذه الزيادة في الوقت الذي عاد فيه سعر الدولار إلى ما فوق 13 ليرة مع بداية العام الجاري، الذي يتوقع المراقبون أن تتجاوز فيه زيادة أسعار المنتجين نسبة 60%.
ورغم تحقيقها نموا اقتصاديا معتبرا بلغت نسبته 7.4% خلال الربع الثالث من العام المنصرم، ساهم فيه نجاح البلاد في تحقيق رقم قياسي غير مسبوق في حجم الصادرات التي بلغت قيمتها 225 مليارا و368 مليون دولار خلال العام 2021 بزيادة تبلغ نسبتها 32.9%، فإن المراقبين يتوقعون أن تظل تركيا تحت وطأة شتاء باهظ الكلفة على المدى القصير قبل أن تتجه مؤشراتها للتحسن على المستويين المتوسط والبعيد، فما السبب؟
يجيب تان هاسكول الخبير الاقتصادي التركي والعضو المؤسس في شركة "إنتيل كيت" للبيانات على تساؤل الجزيرة نت، بالقول إن التغيرات الأخيرة التي تبدو غير منطقية في أداء الاقتصاد التركي ترجع أساسا إلى خضوعه لمعايير خاصة في التقييم من حيث المخاطر المنهجية والرسملة.
ولتوضيح ذلك، يقول إن لدى تركيا مقايضات تخلف عن السداد والتصنيف الائتماني أعلى من المقايضات المتأخرة لدى دولة مثل أوكرانيا، رغم أن الأخيرة بخلاف الحال في تركيا تقف على أبواب الغزو، مضيفا أن مقايضات العجز في سداد الديون يمكن أن تعتبر من أكثر الأدوات العالمية شيوعا لقياس المخاطر المنهجية في الاقتصاد.
ويصف هاسكول اعتماد هذه المعايير لتسعير الليرة التركية بـ"الأمر السخيف" الذي لفت انتباه كبار خبراء الاقتصاد حول العالم، ومنهم كبير الاقتصاديين في معهد التمويل العالمي "آي آي إف" (IIF) روبين بروكس الذي شغل أيضا منصب الرئيس الإستراتيجي للفوركس في مؤسسة "غولدمان سكاكس" (Goldman Sachs)، حيث كان قد حدد معاملا يسمى السعر العادل لليرة التركية، وقال إنه عاجلا أم آجلا سيعود سعر صرف الدولار إلى مستوى 9.5 ليرات وفقا لهذا المعيار.
ويشير هاسكول إلى أن الأداة المالية الجديدة التي أعلن الرئيس أردوغان اعتمادها يوم 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي نجحت في تحفيز المدخرين الأتراك لتحويل ودائعهم البنكية من الدولار إلى الليرة بعد التعهد بدفع الخسائر المتكبدة بالدولار، فانخفض الدولار من 18 ليرة إلى 11 ليرة تحت ضغط البيع المفاجئ.
كما يبين أن هذا الإجراء نجح في كبح جماح المضاربين الأجانب والصناديق التي قامت لفترات طويلة بالضغط على الليرة التركية، عبر إبرام عقود استدانة قصيرة الأمد ألحقت خسائر فادحة بها، وبالتالي تم تسجيل أسرع تقدير في أداء الليرة التركية منذ عام 2010 تحت تأثير الأداة المالية الجديدة.
في المقابل، يرى هاسكول أن التضخم الذي سجلته تركيا مؤخرا كان هو الكلفة التي ترتبت على هذا التحول الجذري في الأداء الاقتصادي، مشيرا إلى أن تسارع زيادة التضخم الذي تشهده البلاد اليوم قاد إلى الارتفاع السريع في أسعار السلع والخدمات، مضيفا "هذه تكلفة علينا أن نتحملها ونتعامل مع تداعياتها لحماية النظام المالي والتوظيف وتسريع الاستثمارات".
ووفقا للخبير التركي، فإن القيمة النقدية هي أكثر المؤشرات الكلية للاقتصاد، لذلك من المتوقع أن يؤثر انخفاض سعر صرف الدولار أمام الليرة على النظام الاقتصادي بأكمله على المستويين المتوسط والبعيد ليشمل تعديل التضخم وتخفيض الأسعار.
من جهته، يعتقد الخبير في الاستثمارات التركية خالد دياربكرلي ألا تظهر الآثار المباشرة لانخفاض سعر صرف الدولار على المدى القريب، لكنه يتوقع أن ينخفض التضخم بعد 3 أشهر من الآن إذا نجحت الليرة في الثبات عند المستوى الذي وصلت إليه ولم تعد إلى مسار الانخفاض الجديد.
ويعول دياربكرلي الذي تحدث للجزيرة نت، على ثقة المودعين بثبات سعر الصرف وعلى النمو المستمر، على الرغم من انخفاض سعر الصرف، لعكس مؤشرات التضخم والأسعار، وإن كان يقر بأن توقع سعر صرف الليرة يمثل واحدا من التحديات أمام المراقبين.
ورغم إعلان الدولة عن بدء حملات للرقابة وتخفيض الأسعار في الأسواق من خلال حملات تفتيش ومراقبة على السلع وخطوط الإنتاج والتسويق والعرض في المتاجر الكبرى والمحال الفرعية، فإن أي انخفاض لافت في الأسعار لم يسجل حتى الساعة.
وقال عبد الله حرب الباحث الأكاديمي في جامعة "كادير هاس" التركية بإسطنبول، إن مستوى التضخم هو انعكاس للأسعار المرتفعة، وهو بالتالي يعبر عن ارتفاع الأسعار والخدمات على أساس شهري أو سنوي، مرجحا أن تبقى الأسعار مرتفعة، أو أن تزيد ما لم يتم اتخاذ إجراءات تخفض من قيمة التضخم.
وأشار حرب في حديث للجزيرة نت إلى صعوبة الحلول في التعامل مع أزمة التضخم في تركيا بالنظر إلى كونها نبعت أساسا من انخفاض سعر العملة المحلية وتراجع قدرتها الشرائية، موضحا أن الدول عادة ما تعالج هذا النوع من التضخم برفع سعر الفائدة كأهم وأول أداة مالية يتم استخدامها.
وأشار إلى أن اللجوء لرفع سعر الفائدة غير وارد في تركيا في ظل سياسة الرئيس أردوغان المالية القائمة على خفض سعر الفائدة، وهو الأمر الذي يضطر المراقبين الاقتصاديين إلى استثناء هذا الإجراء في تنبؤاتهم حول أداء الاقتصاد التركي والبحث في أدوات محدودة للتعامل مع الحالة القائمة.
وأشار إلى أن الأداة المالية الجديدة التي أعلن عنها أردوغان أصبحت خيارا أساسيا لخفض قيمة التضخم إذا نجحت في رفع سعر الليرة على المدى المتوسط، لكنه رأى أن أثر هذه الأداة ما زال غير ملموسا ويتطلب مزيدا من الوقت للحكم على فعاليتها.
وقال حرب إن هناك أدوات أخرى يمكن اللجوء اليها لخفض التضخم من بينها خفض الإنفاق الحكومي وفرض ضرائب ورسوم للحد من ارتفاع الطلب، لكن هذين الإجراءين غير محبذين ضمن سياسات أردوغان الاقتصادية وحكومته خاصة في ظل اقتراب الاستحقاق الانتخابي.
ويختم بالقول إن الخيارات محدودة وغير سهلة، ومرتبطة بنجاح الإجراءات المتصلة بالأداة المالية الجديدة في رفع سعر الليرة والحفاظ عليها، وبالتالي طمأنة الأسواق وتشجيع الاستثمار، لكنه يرى أن الحكم على مستقبل سعر صرف الليرة ما زال يتطلب المزيد من الوقت لقراءة آثار الأداة الجديدة.