شكل إعلان الإدارة الأميركية أنها تتواصل مع الدول المنتجة للغاز لتوفير الإمدادات لأوروبا، مقدمة لأزمة محتملة جديدة مع روسيا، وبوادر حرب اقتصادية جديدة ضدها، تهدف إلى وقف تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا، وحرمان موسكو من أحد أكبر الأسواق المستهلكة للغاز في العالم.
وفي حال تم ذلك، سيبرز السؤال الملح حول الأضرار الاقتصادية التي ستتعرض لها روسيا، والبدائل التي يمكن أن تتوفر لها لتعويض الخسائر الباهظة في حال توقفت إمدادات الغاز إلى أوروبا.
ويتجاوز موضوع العقوبات على صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا البعد السياسي المرتبط شكليا بالأزمة الأوكرانية، فليس سرا أن الولايات المتحدة التي تهيمن على معظم صادرات الطاقة في العالم، لا تقبل بأن يزاحمها أحد على هذا العرش، وخصوصا من الخصم الجيوسياسي الأكبر بالنسبة لها.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يندلع فيها النزاع بين البلدين على القضايا المتعلقة بالطاقة، وخطوط إمداداتها، إذ يكفي أن نتذكر التنافس الشرس في التسعينيات من القرن الماضي حول اتجاه شحنات النفط والغاز في بحر قزوين، والتي بذل الغرب حينها جهودا كبيرة لمنع إمداد منطقة بحر قزوين بالنفط والغاز عبر الأراضي الروسية، وحينها أكد المسؤولون الأميركيون بشكل علني أن الولايات المتحدة ستكون راضية عن أي خيار لمد خطوط الأنابيب، طالما أنه سيتجاوز روسيا.
ولكن مع بداية القرن الـ21، تغيرت الأوضاع في السياسة الدولية، وفي الوقت نفسه، تغيرت السياسة الأميركية تجاه موارد النفط والغاز الروسية أيضا.
ويرى خبراء روس أنه في ظل غياب تأثير فعال لإنهاء عقود روسيا طويلة الأجل مع الدول الأوروبية، ذهبت الولايات المتحدة إلى خيار صب الزيت على نار الأزمة الأوكرانية، والتي كان أحد أسبابها، برأيهم، تقويض سلطة شركة "غازبروم" (Gazprom).
وفي السابق، واجهت روسيا معارضة قوية في تنفيذ مشروع خط أنابيب الغاز "ساوث ستريم"، الذي كان من المفترض أن يتم وضعه في بلغاريا، لكن الضغوط القوية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حالت دون تنفيذه، ونتيجة لذلك، تم الاستغناء عنه بمشروع خط أنابيب الغاز التركي، ورغم أن روسيا حصلت على فرص إضافية لإمدادات الغاز، فإنها في نفس الوقت أصبحت تعتمد على مستهلك واحد.
تشكل صناعة الغاز ركيزة الاقتصاد الروسي، وأهمها ميزاته التنافسية، ومصدرا أساسيا لحصيلة النقد الأجنبي في الموازنة العامة للدولة.
وتمتلك روسيا إمكانات هائلة لإنتاج الغاز وسوقا عالمية ومحلية ضخمة وقدرة على توفير أكثر من 300 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، علاوة على ذلك، تعتمد مناطق بأكملها في العالم على إمدادات الغاز الروسي.
وتبلغ حصة الغاز الروسي في الاستهلاك الأوروبي نحو 40%. وفي المجموع، يتم تصدير أكثر من 200 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا، مع استهلاك سنوي يبلغ حوالي 550 مليار متر مكعب.
ومنذ بداية العام الماضي، زادت شركة غازبروم من إمدادات الغاز إلى تركيا بنسبة 188.5%، وألمانيا 41.5%، وإيطاليا 15.9%، ورومانيا 332.4%، وبولندا 13.8%، وصربيا 121.5%، وفنلندا 27.9%، وبلغاريا 48.9%، واليونان 17.5%.
وكان عملاق الغاز الروسي أعلن العام الماضي 2021 أنه رفع إنتاج الغاز بنسبة 18.1% (48.6 مليار متر مكعب) مقارنة بالفترة نفسها من العام قبل الماضي، لتصل إلى 316.5 مليار متر مكعب، وارتفعت صادرات الغاز بنسبة 21.5% (بنسبة 21.8 مليار متر مكعب)، وهو ما جعل روسيا تقترب من الحد الأقصى التاريخي.
ووفق معطيات فبراير/شباط 2022، نمت صادرات الغاز الروسي في العام الماضي بمقدار 2.1 مرة وبلغت 54.2 مليارا، مقارنة بالعام 2020 عندما بلغت 25.7 مليار دولار.
ويرى الخبير الاقتصادي فيكتور لاشون أن مغادرة سوق الغاز الأوروبي لا شك يعني خسائر كبيرة لروسيا، لكنها في المقابل، تملك أسواقا بديلة هائلة من حيث حجم الاستهلاك، كالصين، خصوصا بعد توسيع خط أنابيب "قوة سيبيريا" الذي ساهم في زيادة صادرات الغاز الروسي إلى الصين لأكثر من 10 مليارات متر مكعب، فضلا عن الأسواق البديلة في الهند وجمهوريات آسيا الوسطى وبلدان جنوب شرق أسيا، وحتى مستقبلا في أفريقيا.
ويوضح لاشون للجزيرة نت أن آسيا تبقى أكثر الأسواق الواعدة بالنسبة لروسيا، التي تملك أكبر احتياطيات الغاز في العالم، وتعتزم زيادة حجم صادراتها إلى الدول الآسيوية، وبشكل أساسي إلى الصين.
ورغم أن أوروبا تشكل السوق الرئيسي لشركة غازبروم، فإن البيروقراطية الأوروبية تمنع زيادة الإمدادات من روسيا، على الرغم من نقص الغاز والارتفاع القياسي لأسعار الوقود قبل موسم الشتاء، وفق المتحدث ذاته.
لكن الخبير الاقتصادي لاشون يؤكد أن الخسارة الأكبر نظريا، هي فقدان سلاح الطاقة كوسيلة لحماية المصالح القومية، ومقاومة الضغوطات أمام السياسات غير الودية لبلدان الاتحاد الأوروبي.
وبرأيه، فإن الحديث الأميركي عن إيجاد مصادر بديلة للغاز الروسي إلى أوروبا، سيعني من الناحية العملية إرغامها على شراء غاز أكثر تكلفة وبشروط أقل ملائمة، إذ تبقى التكاليف العدو الرئيسي للحلم الأميركي بتوريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا، لأن إمدادات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة أكثر تكلفة من صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا.
علاوة على ذلك، لن تشتري ألمانيا الغاز الطبيعي المسال الأميركي، لأنها لا تملك البنية التحتية اللازمة لذلك، كما أن بناء محطات جديدة لا يمكن أن يكون مربحا، ناهيك عن إعلان برلين أنها تخطط بالفعل للتخلي تماما عن مصادر الطاقة الكربونية بحلول عام 2050.
ويتابع الخبير الاقتصادي أن المخرج الوحيد أمام البلدان الأوروبية لاستبدال استيراد الغاز الروسي هو التسخين بالفحم بدلا من الغاز، والذي يصل جزء كبير منه من روسيا نفسها، ولكنه في نفس الوقت، يتناقض مع المعايير البيئية السائدة في القارة.
ويلفت الخبير الاقتصادي لاشون إلى أنه داخل أوروبا نفسها، تعتبر النرويج المورد الرئيسي الوحيد للغاز، لكنها ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، وكل الغاز المنتج في بحر الشمال والذي يبلغ حوالي 100 مليار متر مكعب، يتم بيعه من قبل الدولة إلى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع النرويج زيادة الإنتاج بشكل جدي بسبب قاعدة الموارد المحدودة، فضلا عن تقديرات العديد من الخبراء بأن إنتاج الغاز النرويجي سينخفض اعتبارا من عام 2024.
أما البلدان الأخرى التي تملك قاعدة موارد كافية وغير ملزمة بالتزامات تصدير الغاز التي يمكن أن تحل محل الإمدادات الروسية إلى أوروبا، فإما أنها تحت العقوبات أو لا تملك البنية التحتية للنقل وعمليات التسليم إلى أوروبا، أو لا تريد توتير العلاقات مع موسكو.
ويعيد الخبير الروسي إلى الأذهان تحذيرات العديد من شركات الطاقة الدولية لوزارة الخارجية الأميركية، من الغياب شبه الكامل لبدائل الغاز التي توفرها روسيا في السوق الأوروبية.
علاوة على ذلك، يؤكد لاشون أن مزيد من تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة والتلويح بالبحث عن بدائل للغاز الروسي لن يلغي حقيقة اعتماد أوروبا موضوعيا على إمدادات النفط والغاز من روسيا، وبالتالي، لن يكون بمقدورها، ليس فقط التخلي عن روسيا كمصدر للطاقة، بل حتى المشاركة بفرض عقوبات جدية على موسكو.