كشف تقرير حديث عن أن أسعار المواد الغذائية العالمية تستعد للاستمرار في الارتفاع حتى بعد أن قفزت إلى مستوى قياسي في فبراير (شباط) الماضي، ما يضع العبء الأكبر على عاتق السكان المعرضين للخطر مع زيادة الرياح المعاكسة للانتعاش الاقتصادي العالمي.
وأشار صندوق النقد الدولي في تقرير حديث إلى أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت بنسبة تتجاوز 30 في المئة خلال العام الماضي، وهي أسرع وتيرة منذ أكثر من عقد، وفقاً للأرقام المعدلة حسب التضخم من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وكانت قراءة شهر فبراير الماضي هي الأعلى منذ عام 1961 في ما يتعلق بمقياس تتبع أسعار اللحوم ومنتجات الألبان والحبوب والزيوت والسكر.
في الوقت الحالي، أدت الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا إلى تقلب الشحنات وربما الإنتاج لاثنين من أكبر المنتجين الزراعيين في العالم، ويمثل البلدان ما يقرب من 30 في المئة من صادرات القمح العالمية و18 في المئة من الذرة، ويتم شحن معظمها عبر موانئ البحر الأسود المغلقة في الوقت الحالي، وارتفعت العقود الآجلة للقمح المتداولة في شيكاغو إلى مستوى قياسي.
مطالب بزيادة المساعدات الاجتماعية
وأشار التقرير إلى أن الأسر الفقيرة التي يشكل الغذاء نصيباً أكبر من إجمالي إنفاقها، تصدرت قائمة المتضررين من صدمات أسعار السلع. وتمثل تكاليف الغذاء نحو 17 في المئة من إنفاق المستهلكين في الاقتصادات المتقدمة، ولكن 40 في المئة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وعلى الرغم من أن هذه المنطقة تعتمد بشكل كبير على استيراد القمح، فإن الحبوب لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من إجمالي احتياجات السعرات الحرارية.
في الوقت نفسه، فإن الاختلافات في النظام الغذائي مهمة أيضاً، في أوروبا، حيث يشكل الخبز جزءاً لا يتجزأ من العديد من جوانب ثقافتها، يشكل القمح نحو ربع الوجبات الغذائية، في جنوب شرق آسيا، يمثل القمح سبعة في المئة فقط مقابل 42 في المئة للأرز، وتم احتواء ارتفاع الأسعار بشكل نسبي حتى الآن، ومع ذلك، تخفي المتوسطات على مستوى الدولة اختلافات جوهرية داخل الدول حيث تميل الأسر الفقيرة إلى تناول المزيد من الحبوب ولكن أقل من اللحوم والخضراوات والفواكه مقارنة بالأسر ذات الدخل المتوسط.
أخيرًا، قد يكون الاضطراب أكبر بالنسبة إلى البلدان التي لها روابط تجارية وثيقة مع روسيا وأوكرانيا، بما في ذلك أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى، وستؤثر أسعار القمح المرتفعة بشكل أكبر في اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل مصر، التي تعتمد بشكل خاص على الصادرات الروسية.
وبالنظر إلى المستقبل، سيؤدي انخفاض إمدادات الأسمدة وارتفاع أسعار النفط إلى زيادة تكاليف حصاد ونقل ومعالجة الأغذية، ويجب على صانعي السياسات منع هذه الضغوط من تأجيج انعدام الأمن الغذائي عن طريق تجنب الحمائية وزيادة المساعدة الاجتماعية للفقراء. في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يذهب نحو 40 في المئة من إنتاج الذرة إلى الإيثانول، يمكن لواضعي السياسات إعادة تقييم هذا الاستخدام، ويمكن للصين، التي تمتلك أكثر من نصف احتياطيات القمح والذرة العالمية أن تفكر في تحرير الإمدادات لخفض الأسعار.
الحروب تنشر الجوع في عدد من المناطق
ويرى عادل عامر، المحلل الاقتصادي وعضو المجلس الأعلى لحقوق الإنسان في مصر، أن أسعار المواد الغذائية العالمية ارتفعت عام 2021 بنحو 30 في المئة، حتى من دون وجود صراع كبير جديد في أوروبا الشرقية، وبينما صدّرت أوكرانيا معظم محاصيلها من الحبوب في صيف عام 2021، فإن الهجوم الروسي على أوكرانيا قد يوقف بذر الحبوب في فصل الربيع، أضف إلى ذلك أزمة الأسمدة الإقليمية التي أشعلتها أزمة الطاقة وقيود الصادرات والعقوبات التجارية، فضلاً عن أن المزارعين الروس والأوكرانيين يواجهون حالياً تحديات زراعية كبيرة.
وأشار إلى أن فرض العقوبات على قطاع الزراعة الروسي سيكون له تأثير محدود في ظل تعهد بكين بشراء الشعير والقمح الروسي، مؤكداً ضرورة عدم إخضاع هذا القطاع للعقوبات الغربية، بما يكفل التدفق الحر للمنتجات الزراعية، ويساعد في تخفيف حدة الآثار السلبية لأزمة انعدام الأمن الغذائي العالمي.
وذكر أن اضطرابات إمدادات الغذاء والوقود العالمية ستؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، الأمر الذي يبرز أهمية التدخل الدولي لوقف الصراع، بما يكفل تخفيف حدة الآثار الناجمة عن انعدام الأمن الغذائي العالمي، ومن ثمّ تقليل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ولفت إلى أن الحروب هي أحد الأسباب الرئيسة للجوع، والصراعات تؤدي دائماً إلى ارتفاع أسعار الغذاء، ولكن في ظل اقتصاد معولم، فإن التأثيرات على دائرة الغذاء تصل أبعد كثيراً من حدود الصراع، فإن العواقب غير المقصودة للأمن الغذائي في العالم يجب أن تدخل في الحسابات الدبلوماسية، وفي وقت تشكل فيه القدرة على تحمل التكاليف مصدر قلق كبير في مختلف أنحاء العالم في أعقاب الأضرار الاقتصادية الناجمة عن وباء كورونا، فإن القلق الذي يعتري المستثمرين والمستوردين سيرفع أسعار القمح العالمية، وقد بدأت بالارتفاع فعلياً وسجلت مستويات قياسية، كما أن بعض المستثمرين بدأوا مغادرة روسيا وأوكرانيا.
ومن المرجح أن يكون لأي انقطاع لتدفق الحبوب من منطقة البحر الأسود تأثير كبير في الأسعار، وأن يضيف المزيد من الوقود إلى تضخم أسعار الأغذية بخاصة أن روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وتمثل صادراتهما من القمح مجتمعة ما يقرب من ربع الإمداد العالمي. ومع ذلك، فإن هناك توقعات بأن تدفع التوترات المستمرة إلى استمرار ارتفاع أسعار السلع الغذائية، لافتاً إلى أن تكلفة الحرب الأوكرانية ستتوسع عالمياً لتدفع بارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تشهد زيادة بالفعل منذ جائحة كورونا، ومن ثم تتمدد المخاطر إلى ما هو أبعد كثيراً من أوروبا الشرقية.
الأزمة أعنف في الشرق الأوسط
وأشار عامر إلى أن منطقة الشرق الأوسط تعد واحدة من المناطق الأكثر تأثراً بالأزمة الأوكرانية، وبخاصة مصر وتركيا، وهما من بين أكبر مشتري القمح في العالم، ما يعني أنهما سيدفعان الثمن الأغلى في حال أسفر الصراع عن تعطيل إمدادات الغذاء العالمية، وبالتالي ارتفاع الأسعار ما سوف يثقل كاهل ميزانيات الدول، وإضافة إلى تأثير العقوبات المشددة في روسيا، فإن التوغل العسكري من شأنه أن يعرقل تدفق البضائع من أوكرانيا، التي تشكل رابع أكبر مورد للقمح والذرة في العالم. وتكمن المشكلة الآن، وفقاً لمراقبين، في أن نشوب حرب في منطقة البحر الأسود لن يؤثر فقط في الإنتاج الزراعي لأوكرانيا، ولكن أيضاً في قدرتها على نقل القمح والمنتجات الأخرى إلى الخارج.
وأوضح أن "الاحتلال العسكري لموانئ البحر الأسود قد يؤدي إلى حجب كمية كبيرة من المواد الغذائية عن الأسواق الدولية، ما سيؤثر بلا شك في دول مثل لبنان ومصر واليمن وإسرائيل وعمان، مشتري القمح الأوكراني الرئيسين. كما يمكن أن تتأثر دول الخليج العربي التي تأتي في المرتبة الخامسة ضمن أكبر 11 مستورداً للدجاج الأوكراني من دول الشرق الأوسط عام 2020".
وعلى مدى العقدين الماضيين، عززت المحاصيل الأوكرانية الوفيرة من دور البلاد كقاعدة خبز عالمية، إذ أصبح بعض أكبر عملائها هم من البلدان المتضررة اقتصادياً، أو التي مزقتها الحرب أو الدول الهشة في الشرق الأوسط وأفريقيا، بما في ذلك اليمن ولبنان وليبيا. ومن ثم فإن نقص الحبوب أو ارتفاع الأسعار لن يؤديا إلى تعميق الأزمات الاقتصادية وحسب، بل سيسفران عن عواقب اجتماعية لا يمكن التنبؤ بها.
تكلفة ضخمة على الحكومات
وخلال عام 2020، حصل لبنان على نصف استهلاكه من القمح من أوكرانيا، ويستورد اليمن وليبيا على التوالي 22 في المئة و43 في المئة من إجمالي استهلاكهما من القمح من أوكرانيا، ووفرت كييف في عام 2020 أكثر من 20 في المئة من استهلاك القمح في ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش، كما أن ارتفاع أسعار القمح بسبب الحرب الدائرة يكلف الحكومات مليارات الدولارات والدول المانحة عليها توفير مساعدة فورية للدول المهددة بمجاعات، كما أن إغلاق الموانئ سيؤدي إلى نقص إمدادات الحبوب العالمية، وهذا النقص سيؤثر بدوره في الأمن الغذائي لصعوبة الأعمال اللوجستية في ظل وباء كورونا وتحويل كميات القمح اللازمة التي تعتمد على القمح الأوكراني.
وكانت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو"، قد أشارت إلى أن مؤشر الأسعار العالمية للأغذية قد سجل ارتفاعاً في يناير (كانون الثاني) الماضي. وجاء ذلك امتداداً لقفزة أسعار المواد الغذائية العالمية بنحو 30 في المئة خلال العام الماضي، حين ارتفع متوسط السعر العالمي للحبوب بنسبة 27.3 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2021 مقارنة مع شهر سبتمبر 2020، لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ عقد، ودفعت مخاوف الحرب العقود الآجلة للذرة بالفعل إلى أعلى مستوياتها منذ يونيو (حزيران) الماضي، كما دفعت عقود القمح الآجلة إلى أعلى مستوياتها في شهرين قبل التراجع أخيراً.
وبالنسبة إلى دول شمال أفريقيا، المغرب والجزائر وتونس، فإن هذه الدول دخلت في أزمة أمن غذائي، إذ تشهد بالفعل معدلات تضخم في أسعار المواد الغذائية لم تشهدها منذ الفترة السابقة لـ"الربيع العربي" قبل أكثر من عقد، وأشار إلى أن أزمة الغذاء في الدول الثلاث تؤثر بشدة في أسعار الخبز الذي يعد جزءاً رئيساً من الوجبة الغذائية اليومية للسكان في الشرق الأوسط.