بعد مضي أكثر من شهر على أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، لا تزال أسواق النفط الدولية تشهد حالة من عدم الاستقرار، ومن أبرز مظاهر تلك الحالة تذبذب الأسعار بين ارتفاع وتراجع، مما يربك واضعي ميزانيات الدول والشركات بشأن أسعار الطاقة، ومدى تكلفتها في تسعير السلع والخدمات.
وفي ظل تهديد روسيا بقبول دفع ثمن صادراتها النفطية بالروبل، وعقوبات أوروبية وأميركية تعمل على شل المقدرات المالية لروسيا، تعطّل واحد من أهم خطوط أنابيب النفط، وهو خط بحر قزوين، الذي يحمل البترول من كازاخستان وروسيا إلى أوروبا.
هذا العطل أدى إلى ارتفاع أسعار النفط إلى أعلى من 120 دولارا للبرميل الخميس 24 مارس/آذار الجاري، وثمة توقعات لخبراء بأنه إذا استمرت حالة تعطل خط أنابيب النفط ببحر قزوين، فسوف تقفز أسعار النفط إلى 150 دولارا للبرميل.
وتشير التقديرات إلى أن هذا الخط ينقل سنويا نحو 67 مليون طن من النفط، ولكن لا تزال الأسباب المعلنة لتعطله ترجع إلى عوامل متعلقة بعدم استقرار الطقس، ولكن إذا تبين فيما بعد أن عطل خط الإمداد النفطي متعمد، ويأتي في إطار إدارة الصراع بين روسيا من جهة وأوروبا وأميركا من جهة أخرى، فستكون هناك أوضاع أخرى في سوق النفط، قد تؤدي إلى تصعيد خطير للأسعار، يراه البعض في حدود 300 دولار للبرميل.
هل يمكن تعويض النفط الروسي؟
تقديرات الأجل القصير في غالبيتها تذهب إلى أنه من الصعب أن يتم الاستغناء عن الحصة التصديرية لروسيا من النفط والغاز الطبيعي، التي تقدر بنحو 5 ملايين برميل يوميا، وبخاصة مع استمرار موسم الشتاء، واعتماد أوروبا -على وجه التحديد- على الغاز الروسي، سواء للاستهلاك المنزلي، أو لإمداد الصناعة وغيرها من القطاعات الاقتصادية.
ولكن على ضوء الصراع القائم، كلا الطرفين يحاول تحقيق أهدافه، وفي حين أن التكلفة الاقتصادية محل اعتبار، إلا أنها ليست الوحيدة التي تفرض نفسها على مجريات الأمور؛ فهناك حالة ما يمكن وصفها بحرب تكسير العظام، فقد تعمد أميركا وأوروبا -حتى في الأجل القصير- إلى عدم التصعيد مع روسيا، للاستفادة من النفط والغاز الروسيين لأكبر فترة ممكنة، ثم بعد ذلك يتم التوجه للبدائل، وإن كانت أكبر كلفة في الأجل القصير، لاعتبارات تكلفة النقل.
إن الكميات المتعلقة بحصة روسيا في سوق النفط، يمكن لكل من السعودية والإمارات تعويضها، ولكنهما لهما أجندة سياسية مع إدارة بادين، وعلى ما يبدو أنهما حريصان على تسوية تلك الأجندة في ظل تلك الأوضاع، فالبلدان قاما -في ظروف أخرى- بتعويض السوق عن نقص الكميات، وأسهما في خفض الأسعار بشكل كبير، وكانت السعودية تعلن أن النفط سلعة اقتصادية يجب عدم توظيفها سياسيًا، وأن أسعار النفط يجب أن تعكس مصالح الطرفين، المنتجين والمستهلكين.
ولكن قرار بوتين بتوريد مستحقات الصادرات النفطية الروسية لأوروبا بالروبل وليس باليورو، وإعطاءه فرصة لا تزيد على أسبوع لتنفيذ هذا القرار، قد يعجل بتوجه أوروبا وأميركا بتفعيل بدائل أخرى، ومنها التوجه للسعودية والإمارات لزيادة الكميات المصدرة منهما للسوق الدولية، وبخاصة لأوروبا لإنقاذ الموقف.
وفي الأجلين المتوسط والطويل، سوف تعمل أميركا وأوروبا على تدفق الصادرات النفطية من أماكن أخرى، مثل فنزويلا وإيران وغيرهما، وذلك بعد رفع العقوبات عنهما، وإمدادهما باستثمارات تضمن زيادة إنتاجهما والكميات المصدرة للخارج لديهما.
كما قد تستهدف أميركا وأوروبا تهدئة الأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة العربية لدى كل من ليبيا والعراق، وتهيئة الأوضاع لزيادة الإنتاج وكميات التصدير، ولكن كل ذلك سوف يستغرق بعض الوقت، وضخ استثمارات.
إذن، تعويض حصة روسيا في سوق النفط -على الرغم من أهميتها- أمر ممكن ولكن له تكلفته، وقرار بوتين بإعادة النظر في تسعير النفط يمكن وصفه بأنه سيف ذو حدين، فقد يمكّن روسيا من استعادة قيمة عملتها المحلية، وكسب جولة مهمة في الصراع مع أميركا والغرب، وقد يؤدي بها إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي، الذي يمكن أن يقوض وجود بوتين في السلطة.
إذ ستكون خسائر روسيا كبيرة، لو استغنت أوروبا وأميركا عن النفط الروسي بالكامل، فعائدات النفط الروسي تمثل أكثر من 50% من إيرادات الميزانية العامة، ونحو 16% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي 70% من الصادرات السلعية لروسيا.
هل تسمح أميركا وأوروبا بانفجار أسعار النفط؟
التقديرات التي تتوقع أن يذهب سعر النفط إلى 300 دولار للبرميل تبنى -على ما يبدو- على استمرار الصراع وتصعيده، ولكن هل ستسمح أميركا وأوروبا بانفجار الأسعار في سوق النفط؟ الإجابة على هذا السؤال واضحة، بأن تحقيق سيناريو وصول أسعار النفط إلى 300 دولار للبرميل هو سيناريو كارثي سوف يربك اقتصادات أميركا وأوروبا، بل والاقتصاد العالمي أجمع، وستكون له عواقب كارثية، من اتساع رقعة الفقر والبطالة.
وبالتالي، قد تقبل أميركا وأوروبا بعض الشروط الروسية لتمرير ما تبقى من موسم الشتاء، وكذلك حتى يتم تدبير بدائل للنفط الروسي، ولكن من غير الوارد أن يُسمح بإدارة الصراع، لكي يصل سعر النفط إلى 300 دولار للبرميل، لما لذلك من آثار كارثية على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى أوروبا وأميركا بشكل خاص.
تعاون عربي ضروري
على صعيد متصل، يمتلك العرب ثروة نفطية تمثل 25% من الصادرات العالمية، فضلا عن امتلاكهم أرصدة ضخمة من احتياطات مؤكدة من النفط والغاز، لكن الأزمة الاقتصادية العالمية المترتبة على الحرب الروسية على أوكرانيا، لم تدفع إلى أي مظهر من مظاهر التضامن العربي حتى الآن، ولو حتى اجتماع أو مؤتمر لترتيب كيفية مواجهة التداعيات السلبية لهذه الأزمة.
وبلا شك، الدول النفطية العربية (دول الخليج الست + العراق وليبيا والجزائر) سوف تستفيد من استمرار تلك الأزمة من جانب زيادة عوائدها من الصادرات النفطية، ولكن هذا أحد الجوانب الإيجابية فقط؛ إذ إنها ستدفع جزءا من تلك العوائد نظير ارتفاع معدلات التضخم العالمية، لأن الدول النفطية العربية تستود جزءًا كبيرًا من احتياجاتها من الخارج.
أما الجانب الآخر المظلم في المنطقة العربية، فهو البلدان العربية المستوردة للنفط، حيث تتفاقم مشكلاتها الاقتصادية من جانبين: الأول ارتفاع تكاليف فاتورة استيراد الطاقة، وكذلك ارتفاع تكاليف باقي الواردات السلعية.
فضلا عن أن بعض الدول التي تعتمد على الإيرادات السياحية سوف تتأثر بشكل كبير، لمراجعة العديد من السائحين على مستوى العالم أوضاعهم السياحية في ظل الأزمة العالمية، وإلغاء رحلاتهم، لطبيعة الأوضاع الاقتصادية الجديدة.
إن أقل صور التعاون العربي المطلوبة الآن هو أن تقدم الدول النفطية حصصا من النفط والغاز بأسعار منخفضة للدول العربية المستوردة للنفط، للتخفيف من محنتها التي سوف تنال من شرائح كبيرة من المواطنين داخل هذه الدول، لتوقعهم تحت دائرة الفقر والبطالة.