وسط عمليات البيع المكثفة في الأسواق وارتفاع التضخم، تبحث البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا عن النقطة المثالية في السياسة النقدية - لتحقيق زيادات كافية في أسعار الفائدة تؤدي إلى تخفيض التضخم دون أن تدفع الاقتصادات إلى ركود قاس.
في المقابل يجد محافظو البنوك المركزية في آسيا أنفسهم في مكان مختلف تماما. في الصين خفض المقرضون من القطاع الخاص أخيرا سعر الفائدة الرئيس على الرهون العقارية بأكبر قدر على الإطلاق. وحافظ بنك اليابان على تعهده بالإبقاء على العوائد عند الصفر عبر شراء السندات، إذا لزم الأمر.
في مناخ غير مؤكد مثل هذا، لا أحد يعرف أين ستنتهي دورة التشديد في نصف الكرة الغربي ودورة التخفيف في نصفها الشرقي.
لكن إذا أخذنا بكلام صانعي السياسة النقدية، فإن الفجوات بين تكاليف الاقتراض في الاقتصادات الكبرى في العالم تبدو أكبر مما كانت عليه منذ عقود.
في الوقت الحالي، يعتقد "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي أن معدل الاقتراض القياسي المثالي، أو المحايد - حيث يكون الناتج قريبا من إمكاناته، والتضخم نحو 2 في المائة، وكل شيء على ما يرام – يراوح بين 2 و3 في المائة. وفي بنك إنجلترا، النطاق المستهدف بين 1.25 و2.5 في المائة، في حين يرى صانعو السياسة في منطقة اليورو أن المستوى المحايد يقع بين 1 و2 في المائة.
وبينما يخطط "الاحتياطي الفيدرالي" للدخول في هذا النطاق بسرعة، قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاجارد، إن صانعي السياسات في منطقة اليورو يفضلون نهجا أكثر اعتدالا. ومن المتوقع فقط أن يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ أكثر من عقد في تموز (يوليو)، عندما يكون من المقرر أن يرتفع سعر الفائدة على الودائع إلى سالب 0.25 في المائة. وبحلول بداية آب (أغسطس)، من المرجح أن يكون سعر الفائدة المعياري على الأموال الفيدرالية في الولايات المتحدة قريبا من 2 في المائة، بينما يكون بنك إنجلترا قد شرع في زيادته السادسة على التوالي.
قد تكون الاختلافات بعد الأشهر المقبلة أكبر. فقد أصبح المسؤولون في الولايات المتحدة قلقين بشكل متزايد من أن التحول إلى الحياد لن يكون كافيا. وقد يضطر "الاحتياطي الفيدرالي" إلى الضغط على المكابح، ورفع تكاليف الاقتراض إلى أكثر من 3 في المائة، وصولا إلى ما وصفه محضر اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة الأربعاء الماضي، بأنه موقف السياسة "التشديدي"، إذا ثبت أن التضخم أكثر ثباتا مما كان متوقعا.
في أوروبا، المخاوف السائدة من النوع الذي يفضي إلى أن تؤدي دورات التشديد الأكثر اعتدالا إلى توسيع الفارق بين تكاليف الاقتراض في ألمانيا وتكاليف اقتراض الحكومات التي لديها معدلات ديون إلى ناتج محلي إجمالي مرتفعة، ولا سيما إيطاليا. إذا اتسع الفارق بالفعل، فمن المتوقع أن يتوقف البنك المركزي الأوروبي عن التشديد.
كذلك تعد منطقة اليورو والمملكة المتحدة أكثر عرضة للتداعيات الاقتصادية بسبب حرب روسيا وأوكرانيا. وفي غضون ذلك، تدوس كل من اليابان والصين بقدمهما على المسارع ولا ترفعها عنه.
العواقب على الأسواق لا تعد ولا تحصى. مثلا، يتوقع كثيرون مزيدا من القوة للدولار.
يقول آدم بوسين، رئيس مركز بيترسون للأبحاث ـ كان عضوا في لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا، "أضم صوتى إلى معسكر الذين يعتقدون أننا سنرى نسخة مصغرة من ثمانينيات العقد الماضي، حين مضت بضعة أعوام متتالية كان الدولار فيها يقوى مقابل كل شيء آخر".
لكن ما يعد أكثر إثارة للقلق بالنسبة لواضعي السياسات في بكين، الذين تضرروا بالفعل من تأثير عمليات الإغلاق في النمو، التي تسبب بها كوفيد، هو احتمال أن تؤدي الفجوة الحاصلة بين أسعار الفائدة إلى سحق الطلب على المنتجات المالية المحلية. يقول بوزين، "بالطبع لن تفتح الصين حسابها الجاري بالكامل. لكن كلما زاد فرق سعر الفائدة - زاد الضغط على تدفقات رأس المال الخارجة". يضيف، "الاقتصاديون والمسؤولون الصينيين يدركون ذلك تماما".
ومن الآثار الجانبية الأخرى أن تشعر الأسواق الناشئة والشركات بالضيق من ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وأن تقترض بعملات أخرى بدلا من الدولار. فقد اكتسبت هذه التجارة التي تسمى بالتجارة العكسية مكانة بارزة في 2015 عندما أطلق البنك المركزي الأوروبي أخيرا التسهيل الكمي، بينما كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يفكر في رفع أسعار الفائدة.
لكن بحسب هيون شين، من بنك التسويات الدولية، قد يكون هناك إحجام عن تحمل تكاليف الصرف الأجنبي المرتبطة بمثل هذه البيئة غير المؤكدة، مشيرا إلى أن المستثمرين إذا أرادوا الاقتراض بالدولار لبضع أعوام، فقد يخرجون بمكاسب إذا ما اقترضوا باليورو ثم قاموا بتحويل العملة. لكن الخطر يكمن في أن هذا من شأنه أن يترك المستثمرين في خطر محتمل إذا تحركت أسواق العملات ضدهم. يقول، "لن تذهلني حقيقة أن هذا النوع من المعاملات سيحدث على نطاق واسع الآن".
مهما كانت التداعيات، مقصودة أم لا، سيكون من الحكمة الرهان على أنه في هذا العالم المقلوب رأسا على عقب، والذي يبدو أنه الوضع الطبيعي الجديد، البنوك المركزية ستنظر إلى بعضها بعضا بطريقة مختلفة عما كان في السابق.