استحوذت أزمات مثل جائحة "كوفيد-19" والحرب الروسية على أوكرانيا على كامل اهتمامنا، لكن هناك 5 تحولات كبرى سيشهدها العالم وتحدد مسار الاقتصاد العالمي على المدى البعيد.
وفي مقاله الذي نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times) البريطانية أبرز الكاتب أرفيند سوبرامانيان هذه التحولات التي يترقبها العالم.
إن نهاية عصر التمويل الرخيص جدا تعدّ من بين التحولات الأولى التي ستشهدها الساحة العالمية، وبينما يلقي التضخم بظلاله على الاقتصاد العالمي بدأت الحكومات تطبيق سياسات التشديد النقدي، ولهذا السبب من غير المرجح أن ترتفع أسعار الفائدة الحقيقية على المدى البعيد إلى المستويات المسجلة خلال حقبة التضخم السابقة، لأن نسبة النمو الآن أضعف بكثير، فضلا عن أن ارتفاع معدلات شيخوخة السكان سيؤدي حتما إلى تقلص فرص الاستثمار، لكن ما هو مؤكد أن عصر أسعار الفائدة الصفرية قد ولّى.
ونبّه الكاتب إلى أن أسعار الفائدة المرتفعة ستدمّر الثروات مع تراجع أسعار الأصول عن التقييمات الحالية المتضخمة، وستُعرّي أوجه قصور الشركات والدول التي تراكمت ديونها، وسينتج عن ذلك حالات تخلف عن السداد وأزمات مالية ستشمل الأسواق الناشئة.
أما التحول الثاني المرتقب فهو تلاشي عصر العولمة المفرطة للتجارة؛ فعلى مدى العقد الماضي اكتسبت القوى المناهضة للعولمة نفوذا متزايدا، وفي العقد القادم سنشهد حدوث مثل هذا التحوّل. وتؤدي العوامل الجيوسياسية إلى انحياز كثير من الدول نحو النزعة الحمائية، وتساعد إستراتيجيات التحوط التي ستعتمدها كثير من الدول على تحقيق مزيد من الاكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة والأدوية الأساسية والموارد والتقنيات، ومن شأن تسليح الاعتماد المتبادل بين الدول -الذي يتجلى في العقوبات المسلطة على إيران وروسيا- أن يبدّد تدريجيا سحر العولمة، وسيأتي رأس المال من الأنظمة الفاسدة.
لن يتراجع العالم في الواقع عن العولمة، لأن بعض أنواع التجارة وخاصة الخدمات ستستمر في التوسع في بعض المناطق الغربية، لكن حجم وسرعة الاندماج الذي شهده العالم منذ نحو 25 عاما لن يعود.
يتمثل التحول الثالث -حسب الكاتب- في انتهاء التقارب الاقتصادي بين الدول. فعلى مدى 3 عقود، كانت الدول الأكثر فقرا تحاول مواكبة مستويات المعيشة في الدول الأكثر ثراء، لكن هذه الديناميكية كانت مدفوعة في جزء كبير منها بالتمويل الرخيص والعولمة المفرطة. ومع اقتراب نهاية حقبة هيمنة القوى العاملة الصينية والهندية على العمالة العالمية، سيعاني الاقتصاد العالمي من نقص في اليد العاملة وهذا بدوره سيعزز الضغوط التضخمية.
ويوضح الكاتب أن التحول الرابع هو مزيد من تضاؤل التعاون العالمي، إذ كشفت الجائحة عن حالة الفوضى التي تميز الآن النظام المتعدد الأطراف الذي وُضع بعد عام 1945، وكانت التكاليف المالية لإنتاج اللقاحات وتوزيعها على العالم ضئيلة جدا مقارنة بالفوائد المحتملة في إنقاذ الأرواح وتجنب الخسائر الاقتصادية، ولكن أثبتت القوى والمؤسسات الكبرى أنها غير قادرة حتى على التكفل بهذه المهمة.
وأوضحت جائحة "كوفيد-19" أن منظمة التجارة العالمية كانت ضحية التنافس الجيوسياسي وعجز الغرب عن إيجاد وسائل لتوفير وظائف جيدة للعمال الذين خسروا وظائفهم عندما انقلب النظام الصناعي العالمي رأسا على عقب.
أما التحول الخامس فهو احتمالية أن نشهد في العصر الجديد تنافسا شديدا بين الولايات المتحدة والصين في المجالات الاقتصادية والأمنية بسبب التطورات المحلية في أكبر اقتصادين في العالم.
وتشهد الولايات المتحدة على الصعيد الداخلي حالة من الاستقطاب وأصبحت شريكا أقل جاذبية وغير موثوق به لدى البلدان الأخرى، في حين لم يعد الوصول إلى أسواقها وتوفير التمويل السخي جزءا من ترسانة سياستها الخارجية أو قوتها الناعمة. في غضون ذلك، أصبحت الصين تشكل تهديدا لجيرانها كما أن تحركات الرئيس الصيني شي جين بينغ بدّدت كل الآمال في أن تصبح الصين دولة غنية حقا أو منفتحة سياسيا.
ورغم قتامة هذه التحولات الخمسة هناك جانب مشرق، فانتهاء عصر العولمة بعيدا عن الصين من شأنه أن يخلق فرصا للدول الأخرى، وأن يعزز نمو اقتصادات أخرى مثل فيتنام وبنغلاديش وإندونيسيا وكذلك الدول النامية الأخرى، ومن ثمّ السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي للحد من نقص الغذاء العالمي؛ وذلك ينبغي أن يشجع صانعي السياسات في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على التركيز على تعزيز الإنتاجية الزراعية ودخل المزارع، والسير على خطى كوريا الجنوبية وتايوان والصين قبل عقود.
ويرى الكاتب أن كل الظروف الحالية توفر بيئة مؤاتية ليدرك العالم أن الشمس والرياح مصادر طاقة أكثر موثوقية وأقل ضررا من روسيا والشرق الأوسط، والتعويل أكثر على المصادر المتجددة لن ينقذ كوكب الأرض والبشرية فحسب بل سيستنزف أسلحة وموارد أمراء الحرب الوحيدة.