انطلقت تونس في تنفيذ خطة إنقاذ للاقتصاد تهدف من خلالها إلى التخلص تدريجاً من الأزمة الاقتصادية التي تسببت في التخفيض السيادي للبلاد بعد فترة سيطرت عليها الصعوبات المالية وعدم الاستقرار الاجتماعي امتدت إلى أكثر من عشرة أعوام وانحصرت خلالها نسبة النمو إلى أقل من واحد في المئة وتباطأ الاستثمار الذي لم يتجاوز 16 في المئة عام 2021 وتفاقمت المديونية التي بلغت 77.7 في المئة من الناتج القومي الخام.
وأعلنت الحكومة الحالية في أبريل (نيسان) 2022 عن برنامج إنعاش اقتصادي يهدف إلى إخراج الاقتصاد من دائرة الانكماش بعد أن أنهى عام 2021 بنسبة نمو قدرها 3.1 في المئة والربع الثاني من 2022 بنسبة نمو لا تزيد على 2.8 في المئة.
ومن أهم هذه الإجراءات دعم سيولة المؤسسات المالية والمؤسسات الصغرى والمتوسطة وقطاع الأشغال العامة وتسريع المشاريع العمومية ومعاضدة المؤسسات السياحية وتنشيط الاستثمار ودفع الصادرات عن طريق صندوق ضمان أخطار التصدير، علاوة على تحسين مناخ الأعمال بتطوير الإطار القانوني وتحديث قانون الصرف.
كما وعدت الحكومة الحالية في إطار خطتها للخروج من الركود بحذف جملة من التراخيص، وتم في هذا الإطار حذف 25 ترخيصاً تتعلق بمزاولة عدد من الأنشطة الاقتصادية في شهر مارس (آذار) 2022.
وأعلنت الحكومة أن هذه الإصلاحات العاجلة تأتي في إطار حلقة في مسار إصلاحي متكامل للخروج تدريجاً من الأزمة واستعادة الثقة لدى المتعاملين الاقتصاديين والمانحين والشركاء في حين يجري العمل على وضع تدابير إضافية كفيلة بتحسين أداء الاقتصاد العام في إطار تشاركي مع الأطراف الاجتماعية في تونس والجهات المانحة في الخارج للحصول على تمويل جديد يخفض من حدة الضغوط على المالية العمومية.
في المقابل تكهنت المؤسسات المانحة بأن يسير الاقتصاد التونسي إلى نسبة نمو أقل مما كان منتظراً وتوقع البنك الدولي في تقرير له في سبتمبر (أيلول) الماضي تسجيل معدل نمو يبلغ 2.7 في المئة هذا العام إذا تواصل نسق النمو بهذا المعدل، أي 0.8 في المئة نقطة كما كانت الحال بين الثلاثي الثاني لعام 2021 والثلاثي الثاني لعام 2022.
وقال البنك إنه إذا تواصل نسق الانتعاش كما كان قبل الحرب الأوكرانية بنسبة 1.27 في المئة نقطة نمو بين الثلاثي الثاني لعام 2021 والثلاثي الأول لعام 2022، فإن نسب نمو الاقتصاد التونسي يمكن أن تصل إلى 3.1 في المئة.
ومن المنتظر أن يسفر ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية عن زيادة عجز الموازنة، مما يتسبب في تفاقم العجز المزدوج باعتبار أن نظام الدعم يحافظ على ثبات الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين ويبقيها منخفضة.
وتوقع البنك الدولي تدهوراً للميزان التجاري وميزان المدفوعات بسبب زيادة قيمة الواردات نتيجة صعود الأسعار العالمية، ورجح أن يصل عجز الموازنة إلى 9.1 في المئة هذا العام مقابل 7.4 في المئة عام 2021 بسبب زيادة نفقات الدعم وأن تزيد كتلة الأجور بنسبة سبعة في المئة، كما تكهن بزيادة في المداخيل الجبائية بنسبة 15 في المئة مقابل 12 في المئة عام 2021 بفضل إقرار بعض الإجراءات لتعبئة الأداءات غير المباشرة الإضافية وتوقع تراجعاً بنسبة 12 في المئة في نفقات الاستثمار العمومي.
وبلغت نفقات الاستثمار السنة الراهنة 7.9 في المئة فقط من إجمالي النفقات مقابل 18.3 في المئة عام 2017 ورأت الجهة المانحة أن الاستخدام المستمر لنفقات الاستثمار كعامل لتعديل توازن الموازنة أدى إلى تدهور الخدمات العمومية وأعاق الاستثمار ومن ثم النمو، بحيث لن يزيد الاستثمار العمومي على 2.9 في المئة من الناتج الداخلي الخام هذا العام مقارنة بـ5.3 في المئة عام 2017.
وتتواصل إشكالية تمويل الموازنة في تونس إذ سيصل الدين إلى 114 مليار دينار (34.5 مليار دولار)، ما يساوي 78.3 في المئة من الناتج الداخلي، واعتبر البنك الدولي أن الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة لتسريع النمو سيكون لها تأثير ملموس في الاقتصاد إذا كان تطبيق هذه الإصلاحات ملائماً.
اعتبر المحلل الاقتصادي جمال بن جميع في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن البرنامج المعلن عنه لإعادة تأهيل الاقتصاد التونسي غير قابل للتنفيذ لأنه لا يعالج معوقات النمو ولا يتضمن رؤية واضحة على المديين البعيد والمتوسط، بل هو مجرد آليات تصريف ومجاراة يومية لمخلفات الأزمة العميقة، الأمر الذي لا يتيح مواجهة الضغوط الواضحة التي تعترض المالية لعدم تسريعه عملية إصلاح المؤسسات العمومية المفلسة التي تنهك موازنة الدولة.
وانتقد عضو الهيئة المديرة لـ"المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" (منظمة مستقلة) منير حسين تعامل الحكومة مع الأزمة المالية الحادة التي تحولت إلى بحث عن الحلول العاجلة المتمثلة فقط في تعبئة الموارد المالية الخارجية والتقشف ورفع الدعم بنسق سيؤدي إلى الوقوف على حافة الانفجار الاجتماعي الذي أضحى يهدد البلاد، وأكد أن "التقشف في المصاريف لن يحول دون استمرار الإشكاليات التي يواجهها المنوال الاقتصادي منذ مدة غير بعيدة. وقد غاب عن الحكومة دعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة الممولة للاقتصاد التونسي التي أدى تدهور وضعيتها إلى استفحال العجز المالي بحكم أن رأس المال المنكمش لا يستثمر في حين أن التعويل على الاستثمار الخارجي المباشر الذي تنتهجه الحكومة لن يوفر الموارد المرجوة بسبب خفوت الوجهة التونسية المتأثرة بتراكم الاضطرابات في الفترة الأخيرة، إضافة إلى عدم الجرأة على تحقيق الإصلاح الجبائي".
وأضاف حسين أن "الضغط الجبائي ينمي الموارد الذاتية للدولة وهو متاح في هذا الظرف في حين تتجه الحكومات المتعاقبة في حركة عكسية إلى الإعفاءات الجبائية المتتالية وتوقيع المصالحة تلو الأخرى في فترات متقاربة من دون موجب، مما عمق أزمة نقص السيولة وحرم الخزانة من موارد هي في أمس الحاجة إليها ومثل تمهيداً مستمراً للتهرب الضريبي".
وأكد أنه "مقابل التخلي عن المؤسسات الصغرى وغض النظر عن المؤسسات الكبرى التي لا تمثل غير ستة في المئة من النسيج الاقتصادي، لم تتم مراجعة ضرائب القطاعات التي جنت أرباحاً من الأزمة الصحية، كما غاب التعامل مع القطاع غير المنظم عن برنامج الإنقاذ وهو من الملفات الحارقة التي تمتنع الحكومات عن الجزم فيها واستقطاب وجذب ودمج أموال طائلة متداولة خارج الإطار القانوني بالقطاع غير المهيكل تجاوزت 4 مليارات دينار (1.21 مليار دولار) والأموال المهربة خارج تونس التي كشف تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن أنها تساوي 4.1 مليار دولار سنوياً، إذ لم يتم التدقيق في ذلك وتحولت القروض الداخلية التي اتجهت إليها الدولة التونسية بسبب عجزها عن الخروج إلى السوق المالية العالمية للاقتراض إلى مجال لتبييض الأموال المتداولة بالسوق الموازية".