اقتربت مصر أكثر من أي وقت مضى -حسب تصريحات مسؤولين مصريين في صندوق النقد الدولي- من التوقيع على اتفاق طال انتظاره بعد مفاوضات شاقة مع الصندوق للحصول على قرض جديد، تم خلالها فحص إجراءات للإصلاح الاقتصادي، وفي مقدمتها سعر صرف الجنيه.
وعلى مدار عامي 2020 و2021، أعاد البنك المركزي المصري تحت رئاسة محافظه السابق طارق عامر سياسة تثبيت سعر صرف الجنيه، ورفع قيمته 15% أمام الدولار؛ ليصبح في حدود 15.7 جنيها بدل نحو 18 جنيها.
لكنه عاد وتخلى عن سياسته جزئيا (التعويم المدار) في مارس/آذار الماضي، وخفض قيمة الجنيه 15% دفعة واحدة، تحت وطأة هروب الأموال الساخنة التي قدرها وزير المالية المصري محمد معيط بنحو 22 مليار دولار في وقت لاحق، على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، ولكنها لم تكن كافية.
ومنذ ذلك الوقت يواصل الجنيه المصري رحلة الهبوط تدريجيا إلى أن تجاوز مستوى 19.62 جنيها للدولار، فاقدا نحو 25% من قيمته مقارنة بمستواه قبل 20 مارس/آذار الماضي، بانتظار ما ستسفر عنه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي تعد شهادة ثقة للاقتصاد المصري، وتفتح الباب أمام عودة المستثمرين الأجانب المتوجسين والمترقبين.
ورغم تدني سعر صرف الجنيه مقابل الدولار إلى مستوى تاريخي، فإن الأسوأ لم يأت بعد، حيث ترى وكالة "بلومبيرغ" (Bloomberg) أن الجنيه المصري بحاجة إلى أن ينخفض نحو 14%، أو ما يعادل 24.6 جنيها مقابل الدولار.
وكانت مطالب صندوق النقد الدولي خلال المفاوضات الصعبة -التي بدأت منذ مارس/آذار الماضي- بالسماح بمرونة أكبر في سعر الجنيه، كأحد الشروط الرئيسية للتوصل لاتفاق بشأن إقرار حزمة دعم مالي جديدة لمصر؛ جعلت المسؤولين المصريين يؤكدون أن الحكومة المصرية مع مرونة سعر صرف الجنيه المصري.
وتعد وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد أول مسؤول حكومي يدعم علنا السماح بالمزيد من المرونة في سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وذلك في سبتمبر/أيلول الماضي، حسب الموقع الاقتصادي المتخصص "إنتربرايز"، الذي أضاف أن تصريحات هالة السعيد تأتي بعد أسابيع من التكهنات بقيام محافظ البنك المركزي الجديد حسن عبد الله بمزيد من الخفض للجنيه لمعالجة الاختلال في الوضع الخارجي للبلاد، ومنح دفعة قوية لجهود البلاد للحصول على قرض جديد من صندوق النقد.
هناك عدة أسباب تضغط على الجنيه المصري ليتراجع بشكل حاد ومستمر، وأشار خبراء ومحللون إلى عدد منها:
وترى أستاذة الاقتصاد بالجامعات المصرية عالية المهدي أن "مسألة سعر صرف الجنيه ليست الوحيدة في نقاشات مصر مع صندوق النقد الدولي، ولكنها تتصدر العناوين الاقتصادية؛ فهناك حديث عن تعزيز دور القطاع الخاص، وتوفير حماية اجتماعية للأكثر احتياجا، وخفض نسبة الدين".
أما في ما يتعلق باستمرار طرح سعر صرف الجنيه في كل مناقشات مصر مع صندوق النقد الدولي، فأوضحت للجزيرة نت أن الحكومة تقوم بخفض قيمة الجنيه ثم تقوم لاحقا بتثبيت سعر الصرف، وبالتالي لا يحدث تحرير كامل لسعر صرف الجنيه.
وبشأن تداعيات تحرير سعر صرف الجنيه، أكدت المهدي أن هذه الخطوة مهمة؛ لأنها لن تفرض قيودا اقتصادية على الدولة، كما أن تركه للعرض والطلب سيعبر عن الوضع الاقتصادي الحقيقي للجنيه، وسيساعد على زيادة الصادرات المصرية، ويقلل فاتورة الواردات بدل فرض قيود عليها؛ وبالتالي فإن مسألة تحرير سعر الصرف فكرة جوهرية للصندوق والبنك الدوليين.
وإذا كان تحرير سعر الصرف خطوة إيجابية، فلماذا لا تنفذها الدولة وتلتزم بها؟ تجيب أستاذة الاقتصاد بأن الحكومات لديها تصور أن قيمة الجنيه من قيمة الاقتصاد، في حين أن هناك دول تكافح من أجل المحافظة على سعر عملتها متدنيا، أما ما يثار من مخاوف بشأن ارتفاع التضخم فهو غير دقيق؛ لأن الجزء الأكبر من التضخم أسبابه داخلية وليست خارجية، مع التأكيد أن المواطن سيتضرر من خفض قيمة الجنيه لأن قيمة مدخراته ستنخفض وقوة الجنيه الشرائية ستتراجع، لكنه سيحمي المواطن من استمرار التعرض لصدمات لاحقا.
ولكن المهدي أكدت أن تحرير سعر صرف الجنيه لن يكون حلا لكل مشاكل الاقتصاد، ولا يمكن تصور ذلك، مشيرة إلى أن قيمة الجنيه جزء من السياسة النقدية للدولة، وهي وحدها غير كافية لمعالجة مشاكل البلاد الاقتصادية، التي يكمن علاجها باتخاذ سياسة متكاملة في ما يخص السياسة المالية والنقدية والتجارية والإنتاجية والخدمات المتعلقة بالتعليم والصحة والحماية الاجتماعية.
وفي حال إعلان التوصل لاتفاق بشكل رسمي ستكون هذه المرة الرابعة لمصر في 6 سنوات التي تحصل فيها على قرض من صندوق النقد الدولي لحماية الاقتصاد من شبح الانهيار في ظل شح الموارد الدولارية وزيادة الالتزامات الخارجية.
وشرعت مصر أواخر عام 2016 في تنفيذ برنامج مع صندوق النقد لمدة 3 سنوات، تضمّن قرضا بقيمة 12 مليار دولار، تزامنا مع خفض قيمة العملة بشكل حاد وتقليل الدعم.
وفي 2020، حصلت مصر من الصندوق -بموجب اتفاق استعداد ائتماني- على 5.2 مليارات دولار، بالإضافة إلى 2.8 مليار دولار بموجب أداة التمويل السريع لمعالجة آثار تداعيات جائحة كورونا.
وقد يؤدي تراجع الجنيه بشكل أكبر من المتوقع إلى تحفيز التضخم وزيادة العبء على الاستهلاك المحلي، مما قد يدفع إلى تباطؤ النمو بين 3.3 و3.8% في 2022-2023 مقابل 6.2% في 2021-2022، وفق شركة فيتش سوليوشنز للبحوث التابعة لوكالة فيتش للتصنيف الائتماني.
وحسب بيانات من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (رسمي) في مصر، فقد سجل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية أعلى مستوياته في نحو 4 سنوات، وبلغ 15% في سبتمبر/أيلول الماضي.