خلال الأشهر القليلة الماضية احتلت تايوان مساحة مهمة ومثيرة للقلق بشكل كبير ضمن محددات العلاقات الأمريكية الصينية.
وبعيدا عن الخلاف الصيني الأمريكي تجاه الجزيرة والأبعاد السياسية المعقدة له، فإن تايوان كتجربة اقتصادية تعد مثار نقاش واهتمام بوصفها قصة نجاح متعدد الأوجه والجوانب، يتجاوز حدود منطقة شرق وجنوب شرق آسيا إلى الاقتصاد الدولي عموما.
تايوان تتمتع باقتصاد رأسمالي ديناميكي مدفوع إلى حد كبير بالتصنيع، خاصة صادرات الإلكترونيات والآلات والبتروكيماويات، هذا الاتجاه للتصنيع أسهم بشكل فعال في أن تحتل الجزيرة مكانا مرموقا ضمن هيكل الاقتصاد والتجارة الدوليين.
لكن في الوقت ذاته كان للاعتماد الشديد على الصادرات تأثيره الواضح في تعرض الاقتصاد الوطني لتقلبات السوق العالمية، تضاف إلى ذلك العزلة الدبلوماسية النسبية التي تتعرض لها الجزيرة، وانخفاض معدل المواليد والشيخوخة السريعة للسكان، والمنافسة المتزايدة مع الصين وغيرها من أسواق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، جميعها تحديات رئيسة تواجه النظام السياسي والاقتصادي على الأجل الطويل.
وفي الواقع فإن الاقتصاد العالمي كان دائما ما يضع الاقتصاد التايواني تحت رادار المتابعة، لكن من منطلقات ترتبط في جزء كبير منها بالخشية من قيام بكين بمواقف لا تحسب عقباها تجاه الجزيرة التايوانية، ما يؤدي إلى تبعات متعددة من ضمنها آثار سلبية في الوضع الاقتصادي الدولي.
ولـ"الاقتصادية" يقول الدكتور ميدلينج مارك من المعهد الدولي للتنمية الإدارية، "رادار المتابعة الدولية الاقتصادية لتايوان اتسع نطاقة منذ العام الماضي وبات أكثر تركيزا، فصناعة السيارات عانت نقصا كبيرا في الرقائق الإلكترونية المستخدمة تقريبا في كل شيء في السيارات الحديثة، من أجهزة الاستشعار ووقوف السيارة، إلى تقليل الانبعاثات، وأجبرت ثلاثا من كبريات شركات السيارات في العالم "فولكسفاجن" الألمانية و"فورد موتور" الأمريكية و"تويوتا" اليابانية على وقف الإنتاج، هذا الوضع يعود في جزء كبير منه إلى قصور الإنتاج في شركة TSMC التايوانية أكبر مصنع في العالم لتصنيع وإنتاج الرقائق الإلكترونية المستخدمة في الهواتف الذكية لشركة أبل وفي مجال الذكاء الاصطناعي".
بالطبع تايبيه لم تكن مستريحة لهذا الوضع الذي يؤدي إلى تآكل ثقلها في الاقتصاد الدولي، فضغوط مصنعي السيارات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان على حكوماتهم للحصول على المساعدة، ومطالبة تايوان بإيجاد حل لمشكلة نقص إنتاج الرقائق الإلكترونية، خاصة مع احتمال استمرار مشكلة الرقائق الإلكترونية في 2022، أوجد اتجاها أوروبيا وأمريكيا عاما في تسريع الجهود لتطوير وزيادة قدراتهما الخاصة في صنع الرقائق، ما قد ينعكس سلبا على الوضع المميز لتايوان في هذا المجال، ويفقدها نفوذا سياسيا وثقلا اقتصاديا حظيت بهما في عالم يلعب فيه الصراع من أجل السيطرة على التكنولوجيا دورا رئيسا في تحديد لمن ستؤول قيادة النظام العالمي.
لكن المشكلات الناجمة عن تراجع إنتاجية تايوان من الرقائق الإلكترونية، والتحديات الخاصة بوباء كورونا لا تنفي أن أداء الاقتصاد التايواني كان جيدا مقارنة بعديد من الاقتصادات الإقليمية والدولية، إذ نما الاقتصاد التايواني بأكثر من 3 في المائة العام الماضي متفوقا على الاقتصاد الياباني والسنغافوري وهونج كونج، ويتوقع أن يواصل نموه هذا العام ليحقق أعلى معدل نمو في سبعة أعوام.
ولا شك أن طبيعة الهيكل الصناعي لتايوان وإنتاجها عديدا من المنتجات الإلكترونية أسهما في زيادة الصادرات التايوانية بشكل قياسي بفضل الطلب العالمي الكبير على المنتجات الإلكترونية ومكوناتها خلال العام الماضي.
من جهتها، تعد الدكتورة ماجي والتر أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن، المرتكز الأساسي الذي يعتمد عليه الاقتصاد التايواني في حركته التجارية والمالية هو فكرة المرونة الاقتصادية، بحيث يكون قادرا على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهه.
لكنها ترى أن تلك المرونة الاقتصادية تواجه الآن تحديا حقيقيا في ظل تصاعد التوتر الأمريكي الصيني لعديد من الأسباب، من ضمنها القضية التايوانية، مبينة أن تايوان باتت الآن أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى خفض اعتمادها الاقتصادي على الصين.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أن الصين شريك تجاري واستثماري أساسي وطبيعي لتايوان، لعديد من الأسباب والقواسم المشتركة للجانبين، لكن القيادة التايوانية منذ تسعينيات القرن الماضي تطرح دائما استراتيجيات اقتصادية قائمة على تنويع علاقاتها الخارجية في المجالين التجاري والاستثماري عبر الابتعاد عن الصين والاتجاه إلى منطقة جنوب شرق آسيا، تحسبا لانفجار الوضع في الإقليم واحتدام النزاع مع الصين أو اضطراب العلاقات الصينية الأمريكية.
وتضيف "تلك الاستراتيجيات لم تحقق مبتغاها بالكامل، فالتجارة مع الصين في نمو، بينما تتراجع الاستثمارات التايوانية في الصين، ويلاحظ أن نحو 34 في المائة من إجمالي تجارة تايوان مع الصين وهونج كونج، بينما 13 في المائة فقط مع الولايات المتحدة، و11 في المائة مع اليابان".
مع هذا يرى عدد كبير من الاقتصاديين أن مرتكزات نمو الاقتصاد التايواني ستظل متعلقة في حركتها التجارية والمالية بالاقتصاد الصيني، فمعدل الخصوبة الإجمالي في تايوان من بين أدنى المعدلات في العالم، ما يزيد من احتمال نقص العمالة في المستقبل، وسيترافق ذلك مع انخفاض في الطلب المحلي، وتراجع عائدات الضرائب، ومنذ 2020 وعدد سكان الجزيرة في تناقص.
ويتوقع أن يمثل عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما ما يقرب من 20 في المائة من السكان بحلول 2025، وستنخفض قوتها العاملة بمقدار النصف لتصل إلى 8.6 مليون شخص فقط 2065، وتلك الشيخوخة السكانية تجعل الاقتصاد التايواني أكثر ارتباطا بالصين، للاستفادة من الكثافة السكانية الصينية وانخفاض أجور الأيدي العاملة مقارنة بتايوان وما تمثله الصين من سوق كبيرة وقربها الجغرافي من تايوان يجعل السلع التايوانية قادرة على المنافسة التجارية في الأسواق الصينية، ولهذا من شبه المؤكد أن يظل القطاع التصديري في تايوان معتمدا على الصين لعقود طويلة مقبلة.
مع هذا تعتقد روزي هيدي الخبيرة الاستثمارية أن نجاح تايوان في الهرب من فخ البقاء ضمن فئة الدخل المتوسط الذي ابتلي به عديد من الاقتصادات الناشئة، يكشف أن قواعد النمو الاقتصادي التي تتبناها البلاد تحقق نجاحات باهرة رغم الارتباط الاقتصادي القوي بالصين.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن اعتماد الاقتصاد التايواني على الصناعات التكنولوجية ذات القيمة المضافة المرتفعة، يمنحها ميزة اقتصادية تؤهلها إلى أن تكون قادرة على مواصلة نموها وتقدمها الاقتصادي، ولن تقف العلاقات الاقتصادية المميزة مع الصين عقبة أمام هذا التطور، خاصة أن تايوان تحظى بموقع رائد وقيادي في صناعة أشباه الموصلات".
وتضيف "ربما سيكون من مصلحة الاقتصاد التايواني تحقيق مزيد من التنوع في هياكل الشركاء الدوليين سواء على مستوى الاستثمار أو التجارة الخارجية، لكن سيكون دائما من الصعب على الاقتصاد التايواني مقاومة الجاذبية الاقتصادية للصين، إنما يجب الحفاظ على علاقة متوازنة، فالابتعاد عن الصين سيكون بمنزلة إصابة تايبيه بإعصار جليدي قد يؤدي إلى تجميد نموها الاقتصادي، أما الاقتراب من الصين أكثر مما يجب فسيكون بمنزلة إعصار ناري قد يلتهم اقتصاد تايوان".