ارتفاع وانخفاض قيمة عملات بعض الدول، يلفت أنظار العديد من المتابعين لتجارب الدول الاقتصادية، الناجحة منها وغير الناجحة. فالآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على صعود وهبوط العملات المحلية، أطاحت بحكومات، وتهدد عروش حكومات أخرى.
هناك دول كبيرة اقتصاديا ولكن عملتها منخفضة، ودول تعد صاحبة اقتصادات صغيرة وعملتها مرتفعة، ووراء ذلك دوافع اقتصادية بعضها إيجابي وبعضها سلبي. وحتى نضع بين يدي القارئ صورة لهذا الأداء الذي يثير العديد من التساؤلات، رأينا أن من المناسب أن نتناول الأمر من خلال طرح مجموعة من الأسئلة والإجابة عنها.
بالطبع، هذه الأسئلة تتناول تلك العملات التي يتحدد سعرها وفق آليات العرض والطلب، سواء كان ذلك بشكل كلي أو جزئي، أما العملات التي يتحدد سعرها وفق قرارات إدارية، فهي ليست محل تناول هذا التحليل.
تكتسب عملة أي دولة قيمتها من قوتها الاقتصادية والسياسية، ولعل تصدر الدولار منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن العملات القوية في العالم، يرجع إلى المكانة التي اكتسبتها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، وخروج كثير من الدول الأوروبية مدينة من هذه الحرب لأميركا.
وعندما تم تأسيس مؤسستي البنك والصندوق الدوليين، ونوقشت قضية ضرورة وجود عملة لها قبول لتسوية المعاملات المالية والتجارية الدولية، طرحت أميركا عملتها نظرا لغطائها الذهبي، واستعداد أميركا في ذلك الوقت لدفع قيمة أي دولار يصدر من خزانتها العامة بما يعادله من الذهب.
عندئذ قبل العالم بالدولار عملة دولية إلى جوار بعض العملات الأوروبية الأخرى، إلا أن الدولار أصبح العملة الرئيسة في السوق الدولية.
وبعد عام 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون تخلي بلاده عن قاعدة الذهب، وأن قيمة الدولار مستمدة من الناتج المحلي الأميركي، وأن أي دولار في السوق تقابله سلع وخدمات يمكن لحائز الدولار أن يحصل عليها من السوق الأميركية.
إلا أن ثقة كثير من الدول في صلاحية الدولار عملة رئيسة لتسوية المعاملات التجارية والمالية الدولية، تعرضت للخطر بشكل كبير بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومن هنا طالبت بعض الدول بالبحث عن عملة بديلة للدولار، وهو ما اعتبرته أميركا حربا عليها وعارضته بشدة في اجتماعات مجموعة العشرين التي أعقبت الأزمة المالية العالمية عام 2008.
لا بد من أن نفرق بين تراجع قيمة العملة وانهيارها، فتراجع قيمة العملة قد يكون لعوامل طارئة، أو نتيجة عوامل يفرضها الواقع من خلال ضعف الأداء الاقتصادي للبلاد تجاه العالم الخارجي، ويمكن أن يكون تراجع قيمة العملة مخططا له من أجل تحقيق أهداف اقتصادية لمصالح البلاد.
فمثلا، تطالب كل من أميركا والاتحاد الأوروبي -منذ عام 2000- برفع قيمة اليوان الصيني، بينما تحرص الصين على بقاء قيمة عملتها منخفضة، لأن ذلك يساعدها في نجاح إستراتيجيتها بالحصول على أكبر حصة من الصادرات السلعية العالمية، وقد تحقق لها ذلك، فالصادرات السلعية للصين بلغت 2.5 تريليون دولار في 2020.
أما انهيار العملة، فيتحقق في حالات عدة، منها:
وخلاصة الأمر، أن مفهوم انهيار قيمة عملة ما، هو تراجع قوتها الشرائية، بحيث يفقد الناس الثقة بها، ويتجهون للتعامل بالعملات الأجنبية، بيعا وشراء، بل حتى في مدخراتهم.
هناك عوامل كثيرة تؤدي إلى انهيار العملات، منها ما يتعلق بجوانب سياسية، أو اقتصادية.
ومن أبرز العوامل الاقتصادية التي تؤدي إلى انهيار العملات:
ومن الأسباب الاقتصادية لتراجع قيمة العملة لدولة ما:
اضطراب السياسة النقدية، وعدم مراعاتها لاعتبارات المكونات الأخرى للسياسة الاقتصادية (المالية، والتجارية، والاستثمارية، والتوظيف)، مما يفقدها السيطرة على سعر الصرف، وخاصة إذا كانت هناك منافذ كبيرة ينفذ منها المضاربون ليسيطروا على السوق. ونتيجة لذلك تغيب الثقة لدى المواطنين في عملتهم المحلية، فيتجهون للحصول على العملات الأجنبية، ويساعد ذلك على إيجاد طلب غير حقيقي على العملات الأجنبية، وهكذا تستمر حالة تراجع قيمة العملة المحلية (تحقق هذا الأمر جزئيا في حالة تركيا إلا أن حالة لبنان كانت الأكثر بروزًا) إلى أن تنجح الحكومة والسلطة النقدية في السيطرة على سوق الصرف، وتبني سياسة اقتصادية ناجحة.
الرابحون من انهيار أو تراجع العملة:
أما المتضررون من انهيار العملة:
من أكبر المتضررين من صعود العملة، تلك الدول التي تعتمد على الإنتاج والتصدير بشكل كبير، وخاصة إذا ما كانت قوة العملة المحلية أتت من تدفق إيرادات ريعية، نتيجة تصدير مواد أولية. وعرفت هذه الظاهرة في الاقتصاد العالمي بـ"المرض الهولندي".
وقد سميت هذه الظاهرة بهذا الاسم لأن هولندا كانت من الدول الإنتاجية ولديها حصة معتبرة من الصادرات السلعية، لكن بعد اكتشاف وتدفق الغاز الطبيعي في أراضيها، زادت إيراداتها من النقد الأجنبي نتيجة تصدير الغاز، مما أدى إلى ارتفاع قيمة عملتها المحلية آنذاك بشكل كبير، وأثر ذلك سلبيا على حصتها من الصادرات السلعية.
ومن المستفيدين من صعود عملة دولة ما، أولئك المنافسون لها في الأسواق الدولية، وخاصة تلك العلاقة الخاصة بالتجارة الدولية. فصعود قيمة عملة دولة ما، يؤدي إلى اتجاه المستوردين منها إلى أسواق دول أخرى، وخاصة إذا ما كانت السلع التي تصدرها الدولة صاحبة العملة الصاعدة لها بدائل ومنتجون آخرون.
ومن المتضررين من صعود عملة دولة ما، أسواق المال بها، حيث يعزف عنها المستثمرون الأجانب، وخاصة الذين يعملون في محافظ استثمارية قصيرة الأجل. فصعود عملة دولة ما يؤدي إلى خروج الاستثمارات الأجنبية -المباشرة وغير المباشرة- من أسواق الدول التي تشهد صعودا في قيمة عملتها.
يختلف موقف قوة الدولار بالنسبة للدول -بخلاف أميركا- من دولة لأخرى، وذلك بحسب السياسة الاقتصادية لتلك الدول، فالدول الناشئة والمرتبطة اقتصاديا بالدولار تتضرر من ارتفاعه، لأنه يؤدي إلى انخفاض قيمة عملتها، ويوجد حالة من عدم الاستقرار في أسواق الصرف بهذه الدول.
ولكن بالنسبة للدول التي تعتمد على التصدير، فإن من صالحها وجود دولار قوي، لأن ذلك يساعدها على زيادة حصتها من الصادرات، في ظل تراجع قيمة عملتها المحلية، بينما الدول المستوردة تتضرر من ارتفاع قيمة الدولار، بسبب ارتفاع تكلفة فاتورة الواردات.
أما أميركا، فإن موقفها من اتباع سياسة اقتصادية تعتمد قوة أو ضعف الدولار يختلف من وقت إلى آخر، وذلك بحسب الوضع الاقتصادي في أميركا، من حيث معدلات البطالة والعجز في الميزان التجاري. فكلما كان هناك عجز في الميزان التجاري، اتجهت السياسة الاقتصادية لأميركا إلى خفض قيمة الدولار، والتخلي عن سياسة الدولار القوي، حتى تتمكن من زيادة صادراتها السلعية والخدمية.
"العملات الصعبة" اصطلاح يطلق على العملات القوية التي تعبر عن اقتصادات دول يمكنها تحقيق استقرار في عملتها بشكل كبير، ويتم تغطيتها بأرصدة من الذهب أو الناتج المحلي الكبير، ويكون لها قبول في الأسواق المختلفة لتسوية التعاملات المالية والتجارية. وعادة ما تكون هذه العملات محل ثقة الأفراد في المجتمعات النامية والصاعدة، كملاذ آمن للمدخرات.
المقصود بالعملات الأقوى، تلك العملات التي لها قبول في السوق الدولية، ويتم تسوية التعاملات التجارية والمالية بواسطتها. وهذه العملات هي: الدولار الأميركي، واليورو، والجنيه الإسترليني، والين الياباني، واليوان الصيني.
وتعتبر هذه العملات أهم مكونات سلة احتياطي العملات من النقد الأجنبي للدول، وهي معتمدة من صندوق النقد الدولي، وكان اليوان الصيني آخر هذه العملات من حيث اعتمادها لدى صندوق النقد الدولي، وذلك في نهاية عام 2016.
وقد اكتسبت هذه العملات قوتها في السوق الدولية من قوة اقتصادات هذه البلدان، ونصيبها من الناتج المحلي العالمي.
فبحسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، امتلكت الدول صاحبة هذه العملات (أميركا، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، واليابان، والصين) ناتجا محليا بقيمة 58.4 تريليون دولار، وهو ما يمثل نسبة 69.1% من الناتج المحلي للعالم، والبالغ نحو 84.5 تريليون دولار في عام 2020.
يعد الدولار مقياس قوة غلاء أو رخص عملات الدول الأخرى. وبحسب أسعار الصرف المتاحة على قاعدة بيانات البنك الدولي عن عام 2020، نجد أن هناك عملات لدول في غالبيتها صغيرة، مثل دول الخليج أو دول أفريقية وآسيوية صغيرة، تحتل صدارة قائمة العملات الأغلى في العالم، كما أن هناك على الجانب الآخر كيانات قوية اقتصاديا وعملتها تحتل مرتبة متقدمة كذلك من حيث قيمتها بالنسبة للدولار، مثل اليورو عملة الاتحاد الأوروبي، والجنيه الإسترليني عملة المملكة المتحدة، والفرنك السويسري.
فعلى سبيل المثال، يعادل الدولار 0.94 من الفرنك السويسري، و0.78 من الجنيه الإسترليني، و0.88 من اليورو، و0.71 من الدينار الأردني، و0.38 من الدينار البحريني، و0.31 من الدينار الكويتي، و0.38 من الريال العماني.
وتعدّ عملة الكويت من أغلى العملات في العالم، بحسب أسعار عام 2020.
"الفوركس" هي بورصة لتبادل العملات الرئيسة -الدولار، اليورو، الين الياباني، الجنيه الإسترليني، اليوان الصيني، وعملات أخرى لها مراكز اقتصادية قوية، مثل الفرنك السويسري، والدولار الأسترالي وغيرها- بشكل فوري، ويتم التعامل فيها عبر المعاملات الإلكترونية، وتعد من أبرز صور المضاربة على العملات، وتفعل فيها كثير من آليات بورصة الأسهم والسندات، من حيث تقديم القروض للمتعاملين أو عملية التسويات بين البائعين والمشترين.
وتتضرر اقتصادات الدول النامية من تعامل مواطنيها في هذه الأسواق، بسبب نزوح أموال أبنائها من الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي في أسواق السلع والخدمات، إلى المضاربة على العملات بغية الحصول على الربح السريع في أسواق "فوركس".
وثمة شبهات تحوم حول بعض الأموال التي تستخدم في هذه السوق، بغية عمليات تبيض الأموال، كما أن "فوركس" من أبرز صور الأموال الساخنة التي تربك بعض الدول، من خلال دخولها وخروجها من حسابات الأفراد والمؤسسات العاملة في هذه السوق.