في ظل الجدل القائم حول قواعد الموازنة في الاتحاد الأوروبي، يستعد صناع القرار لمواجهة قد يتردد صداها لأعوام مقبلة، فحجم الديون الضخمة لبعض الحكومات، التي تراكمت بسبب تمويل الإنفاق خلال أزمة جائحة كورونا، يقتضي إعادة النظر في قواعد الاتحاد الأوروبي التي تحكم الديون الحكومية والعجز.
وفي تقرير نشره موقع "بلومبيرغ" (bloomberg) الأميركي، يقول الكتاب أليساندرا ميغلياتشيو وخورخي فاليرو وكاثرين بوسلي إن رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يضغطان لتحرير اقتصاد بلديهما من قيود الاتحاد الأوروبي، ولكن مساعيهما تواجه مقاومة من زعماء دول الشمال.
وبما أن الميثاق الأوروبي للاستقرار والنمو الذي يعود تاريخه إلى ربع قرن ورد في إطار معاهدة، فإن أي تعديلات يجب أن يصادق عليها الأعضاء الـ27 للاتحاد.
ومع انتهاء البنك المركزي الأوروبي من تجديد السياسة النقدية على نحو مثير للجدل، فإن نتيجة المعركة المقبلة على قواعد الموازنة ستحدد نطاق السياسة المالية للعقد المقبل وربما توقعات النمو في الاتحاد الأوروبي أيضا.
وحسب الاقتصادي ماريو مونتي -مفوض سابق في الاتحاد الأوروبي وشغل منصب رئيس حكومة إيطاليا سابقا- أن "الكثيرين في جنوب أوروبا، يعتقدون أنه لا ينبغي أبدا أن تكون هناك عودة حقيقية للقواعد".
ويضيف مونتي الذي يرى أن الإصلاحات الهيكلية لا بد أن تكون لها الأسبقية، "يُعتبر العجز الحكومي المرتفع الذي يغطيه -إلى حد كبير- البنك المركزي الأوروبي، المحرك الرئيسي للنمو".
وصيغ ميثاق الاستقرار والنمو في بداية اعتماد اليورو كعملة موحدة بطلب من الألمان، الذين سعوا إلى إيجاد وسيلة لفرض قيود الإنفاق على جيرانهم من دول الجنوب الأكثر إسرافا، وكان سقف نسبة الديون من الناتج المحلي الإجمالي 60%، والعجز 3%، وكل من يخالف هذه القاعدة يخضع للعقوبات والغرامات.
ووُضعت هذه القواعد في وقت لم يتوقع فيه القادة الأوروبيون أن تكون الحكومات قادرة على الاقتراض بأسعار فائدة متدنية -مثلما هو الحال اليوم- لذلك يعتقد خبراء الاقتصاد أن هذا الاتفاق قيد غير ضروري.
ففي عام 2021، فعّلت المفوضية الأوروبية بندا في الاتفاق يسمح للدول الأعضاء بالإنفاق دون قيود في ظل الجائحة، وينبغي على هذه الدول الآن الاتفاق على قواعد جديدة لضبط الموازنة بعد انتهاء مهلة التعليق في عام 2023.
ويريد دعاة التقشف إحداث تغييرات محدودة على القواعد الأصلية لضبط الموازنة، وهم يرون أن مشتريات البنك المركزي الأوروبي الضخمة من السندات الحكومية كجزء من جهود الإنقاذ خلال الجائحة، جعلت الحكومات تعتمد بشكل مفرط على دعم البنك المركزي.
في المقابل، يجادل المعسكر الآخر بقيادة الإيطاليين والفرنسيين إلى جانب إسبانيا وغيرها أن القيود الصارمة التي يفرضها الاتفاق تكبح النمو الاقتصادي وتثقل عليهم أعباء الديون.
وتعكس هذه الآراء، الإجماع الاقتصادي الذي تبلور بعد أزمة الديون اليونانية خلال العقد الماضي، والتي أقر صندوق النقد الدولي في أعقابها بأن تدابير التقشف الصارمة المفروضة على اليونان كشرط لتخفيف عبء الديون، فاقمت أزمة البلاد.
وفي 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري، قال وزير المالية الفرنسي "برونو لومير" -موضحا الفلسفة السائدة لاقتصادات العالم المتقدم- إن "الاستثمار هو الذي سيعزز النمو والأخير سيعجّل بدوره في تخفيض الديون".
لكن لارس فيلد، العضو السابق في لجنة الخبراء الاقتصاديين في ألمانيا وأستاذ السياسة الاقتصادية في جامعة "ألبرت لودفيغ" في فرايبورغ، يرى أن مثل هذه الأفكار ذهبت إلى أبعد مما ينبغي "إنه نفس الخط القديم. لا يجب على الحكومة الألمانية أن تخضع للضغط، بل عليها أن تسأل عما يتم فعله لتخفيف عبء الديون".
يرى رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي -الذي أدان الاتفاق المالي في عدة مناسبات- أن قواعد ضبط الموازنة "قد ولّى عهدها"، وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني، أبرم مع ماكرون معاهدة ثنائية تعهدا فيها بتكثيف التعاون في عدد من المجالات، بما في ذلك السياسة المالية.
وكان واضحا ازدراء دراغي لهذه القواعد وفي الميزانية المقترحة لحكومته للفترة بين 2022-2024 التي لا تأخذ بعين الاعتبار تصور العودة إلى سقف العجز المحدد بنسبة 3%. وكان هذا سببًا في إثارة دعوة "لتوخي الحذر" في 24 نوفمبر/تشرين الثاني من قبل مفوضية الاتحاد الأوروبي، وهي وجهة نظر تحظى بشعبية في شمال جبال الآلب.
ومن جهته، يقول غيرترود تومبل غوغريل، العضو النمساوي السابق في المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، إنه "كان من الصائب التعامل بسرعة مع جائحة كورونا، لكننا بحاجة إلى إعادة الإنفاق إلى مستويات طبيعية أكثر".
من ضمن مقترحات التغيير، مقترح من قبل خبراء الاقتصاد في "آلية الاستقرار الأوروبي"، الذين أوصوا في ورقة بحثية نشرت في أكتوبر/تشرين الأول بأن تنظر الحكومات في ترفيع سقف الديون إلى نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي -علما بأن جميع الاقتصادات الرئيسية، بما في ذلك ألمانيا، تجاوزت سقف 60% منذ فترة طويلة- واتباع نهج أكثر مرونة في التعامل مع سقف العجز.
ويدعو المجلس المالي الأوروبي -لجنة من مستشاري الاتحاد الأوروبي- إلى السماح باتباع وتيرة أبطأ لخفض الديون، مع إدراك الحاجة المستمرة إلى "تحقيق أهداف مالية واضحة ومعترف بها"، مثل قاعدة 3% لعجز الميزانية المثيرة للجدل.
ولا شك أن المناقشات ستكون طويلة ومثيرة للجدل، وتخطط فرنسا، التي توشك على تولي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، لعقد قمة في مارس/آذار، بينما تستعد المفوضية لكسب الوقت من خلال اقتراح أهداف مالية مؤقتة لعام 2023.
وحسب ما أفاد به باولو جينتيلوني مفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد والشؤون المالية، -في مؤتمر انعقد يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني- أنه "كان من الصعب تطبيق المعايير من قبل، ولك أن تتخيل مدى صعوبة ذلك في ظل ارتفاع مستويات الديون، سنناقش هذه المسألة كثيرا في الأشهر المقبلة، وفي غضون ذلك سيكون تجاهلها خطأ فادحا".