كان وباء كورونا اختبارا حقيقيا للنظام المصرفي العالمي خلال العامين الماضيين. فأشهر من الإغلاق والحد من الأعمال التجارية والأنشطة الاقتصادية مع معدلات بطالة مرتفعة وحزم تحفيزية ضخمة بتريليونات الدولارات، وقيود على التحركات الجماعية الواسعة، مثلت جميعها اختبارا فعليا لمرونة البنوك بطريقة غير متوقعة.
مع ذلك يمكن القول إن البنوك خرجت من الاختبار ناجحة وقوية، وباتت لديها قناعة جديدة الآن أنه يمكنها التغلب على أي تحد حقيقي يواجهها. تلك القناعة تمثل المنصة التي ستبني عليها البنوك توجهاتها وتحدد بناء عليها معايير الأداء هذا العام، وربما الأعوام المقبلة.
من هنا تحديدا يمكننا القول إن النظام البنكي الدولي خاصة البنوك الرئيسة الكبرى تسعى جميعها الآن للإجابة عن سؤال واحد شديد الأهمية، يتعلق بكيفية توجيه هذه الطاقة الجديدة إلى مستويات أعلى من الأداء تهمش بها التحديات التي تعترض طريقها لزيادة قوتها المالية؟ باختصار ما أبرز الملامح التي سيتصف بها النظام المصرفي هذا العام نتيجة التغييرات المتعددة التي برزت خلال العامين الماضيين؟
بالطبع لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال، إذ سيتوقف الأمر في كثير من الأحيان على القدرات المالية الخاصة التي تتباين من بنك إلى آخر، لكن قبل أن يبدأ النظام المصرفي الشروع في رحلته للإجابة عن السؤال المطروح أعلاه، فإن المؤشرات الصادرة من رؤساء مجالس البنوك الدولية تظهر أن الجميع يأخذ في الحسبان التحولات الهيكلية التي تعيد تشكيل النظام المالي العالمي حاليا.
فالنمو الهائل في الرقمنة، وتقارب الصناعات وتداخلها، ودمج التقنيات في الحياة اليومية للمستهلكين ومن ثم في آليات تلبية الطلب الكلي، والأنظمة البيئية المتشابكة بشكل متزايد ومعقد، وبالطبع العملات الافتراضية ذات الطابع المتذبذب في مستويات الأسعار، ودخول البنوك المركزية على خط إصدار عملتها المشفرة الخاصة سيكون لها جميعا، خاصة الرقمنة، عواقب مالية ضخمة على النظام المصرفي ككل من خلال إحداث ثورة في كيفية توفير الأموال ونقلها وتخزينها وامتلاكها.
في الوقت ذاته خاصة في أوروبا، حيث يشير بعض كبار المسؤولين الطبيين إلى احتمال أن يتحول وباء كورونا من جائحة إلى وباء مستوطن في القارة، سيجبر قادة البنوك على مواجهة التحدي الذي لم يسبق له مثيل لإعادة تعريف مكان العمل وكيفية إنجاز الأعمال، في وقت تتزايد فيه المنافسة ضراوة على المواهب.
"الاقتصادية" استطلعت آراء ثلة من الخبراء المصرفيين والأكاديميين، للتعرف على أبرز التحديات والاتجاهات التي ستهيمن على حركة القطاع المصرفي الدولي هذا العام.
دورسي ستيف الخبيرة المصرفية ترى أن التحول الرقمي يسير بأقصى سرعة، وعلى الرغم من أن تلك الجهود تميل إلى أن تكون تدريجية ومجزأة، إلا أن كثيرا من البنوك الصغيرة والمتوسطة خاصة في الاقتصادات الناشئة والنامية لا تزال عاجزة حتى الآن عن مواكبة تلك التغييرات، ما يمنع النظام المصرفي العالمي عموما - من وجهة نظرها - من تحقيق إمكانياته الكاملة خاصة في مجال الاستثمار والإقراض.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "أحد أبرز التحديات التي ستواجه القطاع المصرفي هذا العام والأعوام المقبلة يتعلق بغياب النمو المتوازن في الصناعة البنكية، فالنظام المصرفي الأمريكي على سبيل المثال بنى احتياطات قوية 2020، لكن نتيجة البرامج التحفيزية والتعافي القوي فإن أكبر مائة بنك أمريكي فقدوا 24 مليار دولار من احتياطياتهم في الربع الأول من 2021، والوضع نفسه حدث لدى نظرائهم في كندا".
وأشارت إلى أن الوضع مختلف في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذ زادت البنوك هناك أرصدتها المالية، وأكبر مائة بنك أوروبي أضافوا إلى احتياطياتهم المالية 24 مليار دولار، أما في منطقة آسيا والمحيط الهادئ فقد أضافوا 125 مليار دولار خلال الربع الأول من 2021، ومن ثم فإن هذا الوضع سيوفر مناخا تنافسيا شديدا لجذب المودعين.
بدوره، لا ينفي إل. دي سيمون الرئيس السابق لقسم التحليل المالي في مجموعة لويدز المصرفية أهمية ما أشارت إليه دورسي ستيف، لكنه يرى أن العام الجاري سيشهد وضعا مختلفا عبر رحيل النظام المصرفي بعيدا عن الأدوات والنظم المالية التقليدية.
وقال لـ"الاقتصادية"، "إن الرقمنة العامة للعروض المالية بدأت في تأجيج الانتقال بعيدا عن بطاقات الائتمان التقليدية، وعلينا أن نتذكر أن جيل الألفية على وجه الخصوص حذر تجاه بطاقات الائتمان نتيجة الأزمة المالية لـ2008، ولديهم خوف من الوقوع في فخ الديون التي لا يمكن تحملها".
وأضاف "لهذا ستعمل البنوك خلال هذا العام على التركيز على الائتمان البديل، وسيتعين على مقدمي الائتمان الاستهلاكي مراعاة التحول في المشهد، وكيفية تعزيز وصول المستهلكين إلى الائتمان رقميا والتوفيق بين الحاجة إلى الائتمان مقابل خوف المستهلك المبرر من الديون غير المستدامة".
إضافة إلى هذا الجانب يشير إل. دي سيمون إلى وضع الودائع والإقراض المصرفي مقارنة بالعامين الماضيين، معتبرا ذلك عنصرا حاسما ومحددا رئيسا لمسار وأداء النظام البنكي الدولي.
وأوضح أن "الأمور تعود مبدئيا إلى أوضاعها الطبيعية، وبالتوازي مع ذلك نتوقع أن يتباطأ نمو الإقراض المصرفي والودائع بشكل كبير هذا العام، وقد يؤثر الوضع المالي السيئ في بعض القطاعات والوفرة النقدية المرتفعة في قطاعات أخرى على الطلب على القروض، وسط ترجيحات أن تتقلص تدفقات الودائع من قبل المودعين بشكل أكبر مع تراجع الدعم الحكومي ورفع الإغلاق".
ويواصل قائلا "في غضون ذلك سيظل التمويل المصرفي مدعوما بقوة من البنوك المركزية، على الرغم من عدم توقع مزيد من التيسير في شروط عمليات إعادة التمويل المستهدفة طويلة الأجل".
من جانبه، يرى الدكتور أوليفير مايك أستاذ النقود والبنوك في مدرسة لندن للتجارة، أن النقطة الفاصلة في تطور النظام المصرفي على المستوى العالمي هذا العام ترتبط برقمنة النظام المصرفي.
وفي هذا السياق يشير إلى أن المعدل الذي تبنت به البنوك الرقمنة خلال العامين الماضيين كان مذهلا، وأن البرامج التي كان يتوقع تنفيذها في عقود أنجزت خلال عامين فقط، بسبب التحديات الناجمة عن وباء كورونا، ومع هذا يرى أن القطاع المصرفي لا يزال يعاني مشكلة أساسية.
وذكر لـ"الاقتصادية" أن "البنوك باتت رقمية بدرجة عالية، لكن الطبيعة المتأصلة لمجالس الإدارات تعني أنها ليست على دراية بالتكنولوجيا أو كيفية التعامل مع البيانات مقارنة بعديد من منافسيها في مجال التكنولوجيا المالية، وبعض التقارير تشير إلى أن 10 في المائة فقط من أعضاء إدارة أكبر مائة بنك في العالم و10 في المائة من الرؤساء التنفيذيين لديهم خبرة تقنية احترافية".
ويعتقد مايك أن البنوك ليست جاهزة بعد أو قادرة على تعظيم الاستفادة من جميع البيانات التي تحتفظ بها لمصلحتها، وفي هذا المجال يتفوق اللاعبون الصغار وشركات التكنولوجيا المالية، وعلى الرغم من الرقمنة فإن كثيرا من المصارف ترفض التخلي عن تركيزها المصرفي الأساسي ولا تمتلك المفتاح للاستفادة من جميع البيانات المتاحة.
ويضيف "ستحتاج البنوك هذا العام إلى الاعتماد على نهج التكنولوجيا أولا لعلوم البيانات، وإقامة شراكات مع مزودي الخدمات الخارجيين، وهذا يعني أن الرقمنة ستحقق مزيدا من الهيمنة على الصناعة المصرفية، مع توظيفها بشكل مثالي، ما سيسهم في رفع معدلات الأرباح المصرفية في 2022".
في المقابل، يعتقد البروفيسور توم مارك الاستشاري السابق في بنك إنجلترا أن أبرز تغير سيطرأ على القطاع المصرفي في النصف الثاني من هذا العام وفقا لتوقعاته، سيتمثل في قيام البنوك الكبرى بتقديم خدمات الأصول المشفرة.
وقال لـ"الاقتصادية"، "إنه بعد أكثر من عقد من عمر البيتكوين، لا تزال الشركات التي تعمل في مجال العملات المشفرة مثل Coinbase تهيمن على الخدمات التي توفر التخزين والأمان لمالكي العملات المشفرة وذلك بسبب نقص في الجهات الفاعلة المؤسسية التي تقدم الخدمة، وكذلك لأن هناك قدرا كبيرا جدا من عدم اليقين التنظيمي".
وأضاف "اليوم يشكل حجم التداول المؤسسي لـCoinbase نحو 72 في المائة من إجمالي سوقها، وذلك وفقا لتقريرها الفصلي الأخير، وهؤلاء المتعاملون هم بالفعل عملاء للبنوك الكبرى، لكنهم يضطرون حاليا إلى القيام بتجارتهم في مجال العملات المشفرة في مكان آخر غير البنوك، وهذا الوضع يمكن أن يتغير هذا العام عندما تدخل البنوك الكبرى في مجال تداول العملات المشفرة".
ويضيف "بمجرد حفظ الأصول المشفرة من قبل البنوك التقليدية، سيكون من الأسهل بكثير استخدام هذه الأصول كضمان للقروض، وهذا سيفتح الباب أمام أعداد كبيرة من المنتجات المالية البنكية، مثل الرهن العقاري المدعم بالأصول المشفرة على سبيل المثال"