يسود الاضطراب الأسواق الرئيسة حول العالم، التي شهدت هبوطاً كبيراً الأسبوع الماضي، بانتظار اجتماع الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي خلال يومين، ليقرر في شأن رفع نسبة الفائدة في أكبر اقتصاد في العالم. ولا يقتصر تأثير رفع سعر الفائدة الأساس على الأسواق والاستثمارات والتجارة وحسب، بل يطال التفاصيل اليومية لحياة الناس في مختلف دول العالم، فلماذا هذا الاهتمام وكيف يكون ذلك التأثير؟ بداية، الفائدة بحسب تعريف بنك إنجلترا "المركزي البريطاني" هي ما يدفعه المقترض إضافة إلى أصل القرض أو ما يحصل عليه المدخر إضافة إلى أصل الادخار من نسبة مئوية من أصل الدين أو الإيداع، وكلما ارتفعت نسبة الفائدة زاد ما يدفعه المقترض فوق أصل الدين وما يحصل عليه المدخر فوق مبلغ الادخار الأصلي، وهناك دوماً أكثر من سعر فائدة في أي اقتصاد، لكن الأهم هو ما يسمى "سعر االفائدة الأساس" الذي يحدده البنك المركزي.
واستناداً إليه يحدد المقرضون، من بنوك تجارية ومؤسسات مالية، أسعار فائدة مختلفة تعتمد على مدة القرض وأخطار السداد بحسب الوضع المالي للمقترض من حيث الدخل والإنفاق، وكذلك تتباين أسعار الفائدة على الودائع والمدخرات بحسب مدة احتفاظ البنك بها وحجم الوديعة أو شهادة الادخار.
لكن كل تلك الأسعار تعتمد في تحديدها على نسبة الفائدة الأساس التي يعلنها البنك المركزي، وهي التي تحدد كلفة إقراض المركزي للبنوك التجارية والمؤسسات المالية لتوفير السيولة للشركات والأفراد.
التضخم والأسعار
الوظيفة الرئيسة للبنوك المركزية التي تعمل في أغلب دول العالم بشكل مستقل عن الحكومة، هي مراقبة وضبط وضمان استقرار الأسعار والقيمة في الاقتصاد، وبمعنى آخر مهمة البنك المركزي هي الحفاظ على معدل التضخم في الاقتصاد عند مستوى معقول. ويستخدم البنك المركزي الأداة الرئيسة لديه لتحقيق هذا الهدف عبر تحديد السياسة النقدية، وهي سعر الفائدة الأساس، فإذا ارتفع معدل التضخم عن المستوى المستهدف من البنك المركزي يقوم برفع سعر الفائدة لتقليل الطلب مقابل العرض، وبالتالي وقف ارتفاع الأسعار وخفض التضخم، ويسمى ذلك تشديد السياسة النقدية. وفي حال انخفض معدل التضخم عن المستوى المستهدف لضمان استقرار الاقتصاد يقوم البنك المركزي بخفض سعر الفائدة ليزيد الطلب في الاقتصاد، ويسمى ذلك تيسير السياسة النقدية. غالباً ما يرتفع معدل التضخم وبالتالي ترفع البنوك المركزية الفائدة خلال فترات النمو الاقتصادي القوي أو في حالات المغالاة في قيمة الأصول نتيجة الزيادة الهائلة في الطلب مع نقص المعروض من السلع والخدمات، وتكون زيادة الطلب في الأغلب نتيجة توفر السيولة في الاقتصاد نتيجة أسعار الفائدة المنخفضة التي تقلل كلفة الاقتراض، أو ضخ البنوك المركزية النقد لتنشيط الاقتصاد ذلك هو السبب الأول للاهتمام بتحديد البنك المركزي لسعر الفائدة، ضبط التضخم واستقرار الأسعار، وبالطبع يؤثر ذلك مباشرة في كلفة المعيشة للجماهير العادية بضبط أسعار ما يشترونه من سلع وخدمات بشكل شبه يومي، لكن ذلك يؤثر أيضاً في قيمة الأصول مما يجعل الأسواق والمستثمرين أكثر حساسية لرفع سعر الفائدة، إذ يقلل ذلك من القيمة الحقيقية لأرباحهم المستقبلية، فضلاً عن أن رفع سعر الفائدة يزيد كلفة الاقتراض لتمويل استثماراتهم، سواء لشراء الأسهم في السوق أو تمويل مشاريع توسع في الشركات والأعمال لزيادة العائدات والأرباح.وفي المحصلة الأخيرة فإن رفع سعر الفائدة لتحجيم التضخم يقلل من قيمة الأصول وبالتالي يأكل من الثروة "الورقية" للمستثمرين والمتعاملين في الأسواق.
العملات والديون
السبب الثاني لأهمية تحريك سعر الفائدة الأساس ارتفاعاً أو خفضاً هو تأثيره في سعر العملة في البلد المعني، وكذلك على كلفة الدين العام وأقساطه وفوائده، ولا يعني ذلك التأثير في الاقتصاد الكلي والحساب الجاري للحكومة وعجز الموازنة العامة وحسب، بل أيضاً يمس حياة الناس العادية من طريق تغير القوة الشرائية للعملة الوطنية، وبالتالي قدرة الأسر على تحمل كلف المعيشة. وفي حال رفع سعر الفائدة في أي بلد يرتفع سعر صرف العملة الوطنية لهذا البلد، وبالتالي تستطيع الأسرة ذات الدخل المحدد شراء سلع وخدمات أكثر بهذا الدخل في حال ثبات سعر تلك السلع والخدمات، إلا أن ارتفاع سعر صرف العملة الوطنية يقلل تنافسية صادرات ذلك البلد، وإن قلل كلفة الاستيراد، وهكذا ينعكس رفع سعر الفائدة على الميزان التجاري للبلد المعني.إلا أن رفع سعر الفائدة قد يزيد من انسياب رؤوس الأموال الخارجية إلى الاقتصاد، لتستفيد من العائد في ذلك البلد،
وتنشط في هذه الحالة المضاربات على العملة (Carry Trade) أي يقترض المستثمر من بلد ذي سعر فائدة منخفض ليستثمر القرض في بلد نسبة الفائدة فيه مرتفعة، ويستفيد من الفارق أرباحاً سهلة وسريعة، وتسمى تلك "الأموال الساخنة" التي غالباً ما تكون غير مفيدة للاقتصاد الذي تستثمر فيه، وبالتالي لا تحسب على أنها "استثمار أجنبي مباشر".كما أن رفع سعر الفائدة يزيد من عجز الموازنة في الدولة المعنية، ذلك لأن كلفة الدين الداخلي ترتفع وتضطر الحكومة إلى دفع مستحقات دين أعلى. ولأن أغلب الديون الخارجية لدول العالم مقومة بالدولار، فإن رفع الاحتياط الفيدرالي لسعر الفائدة يزيد من أعباء ديون تلك الدول، كما أنه يجعل قدرة الدول المدينة على إعادة جدولة ديونها أكثر كلفة، وبالتالي تزيد النسبة المئوية لسندات تأمين الديون (CDS) مما قد يؤدي إلى تخلف بعضها عن سداد ما عليها من ديون.
السبب الثالث الذي يجعل تغيير سعر الفائدة في غاية الأهمية للجماهير العادية هو تأثيره في قدرة الأسر على الاقتراض الشخصي، وأيضاً تغير حجم العائد على ادخارها، فرفع سعر الفائدة سيعني ارتفاع كلفة اقتراض الفرد مثلاً لشراء سيارة أو غيرها من السلع المماثلة بالتقسيط.وفي حال امتلاك الأسرة لمنزلها فإن كلفة الأقساط الشهرية لقرض الرهن العقاري سترتفع مع رفع سعر الفائدة الأساس، كما أن الراغبين في شراء عقار سيجدون صعوبة أكبر في تأمين قرض عقاري بكلفة مناسبة لدخولهم. ومع زيادة المدفوعات الشهرية للقروض العقارية يتآكل ما يتبقى للأسرة شهرياً من دخلها، وبالتالي ستعاني ارتفاع كلفة المعيشة.
وفي الوقت نفسه قد لا تزيد الفائدة على ادخار الأسرة بالقدر نفسه الذي تزيد فيه الفائدة على قروضها الشخصية، ويمثل ذلك الفارق خصماً من القدرة الشرائية للأسرة المعنية، كما أنه يقلل من قيمة الادخار على المدى الطويل، بخاصة للأسر التي تدخر من أجل تلبية حاجاتها بعد تقاعد من يعمل وعدم توفر دخل شهري من الأجور. وعانى المدخرون بشدة خلال العامين الماضيين مع خفض أغلب البنوك المركزية نسبة الفائدة الأساس إلى قرب الصفر لمواجهة الركود الاقتصادي الناجم عن أزمة وباء كورونا، لكن رفع سعر الفائدة الآن قد لا يفيد هؤلاء المدخرين كثيراً في ظل ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، إذ سيظل الفارق كبيراً بين العائد على ادخارهم والإنفاق على حياتهم اليومية.
النمو الاقتصادي
السبب الرابع لأهمية سعر الفائدة هو ما يبدو أنه تأثير في الاقتصاد الكلي وأرقامه، لكنه أيضاً يمس بشكل غير مباشر حياة الناس العادية، ذلك أن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي مع كل ما سيتتبعه من تراجع التوسع في النشاط وسوق العمل، وينعكس ذلك على الناس في احتمالات ارتفاع معدلات البطالة وعدم الزيادة في الأجور. لكن رفع سعر الفائدة يؤدي أيضاً إلى امتصاص "الغليان" في الاقتصاد، وبالتالي يحول دون حدوث فقاعة اقتصادية ومالية يؤدي انفجارها إلى انهيار وركود اقتصادي طويل الأمد. يذكر أن أحد العوامل التي أسهمت في الأزمة المالية العالمية خلال عامي 2008 و2009 كان التيسير النقدي الكبير السابق عليها، مما أدى إلى غليان في السوق أسهم في تحول انفجار الفقاعة إلى أزمة حادة.هناك طبعاً تفاصيل كثيرة وتفرعات لكل عامل من العوامل الأربعة، يتعلق برفع سعر الفائدة أو خفضها، وإن كان أغلبها يبدو تأثيراً في أرقام الاقتصاد الكلي للدول، إلا أنها كلها تمس حياة الناس العادية مباشرة أو بشكل غير مباشر، ومن هنا يهتم العالم كله بقرارات تحديد سعر الفائدة الأساس من جانب البنوك المركزية حول العالم حالياً.