تهدد توترات الحرب مع أوكرانيا الاقتصاد الروسي، فسوق الأسهم معرض لخطر الانهيار، مما يؤدي إلى سحب الروبل معه إلى الأسفل، إضافة إلى ارتفاع الأسعار مقارنة بالأجور التي لا تتغير، لكن أيا من هذا لم يثنِ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن حربه.
ونشر موقع "بوليتيكو" (politico) الأميركي مقالا للصحفية الروسية إيفا هارتوج قالت فيه إن موسكو كانت تستعد لذلك، فخطاب الكرملين يشير إلى استعداده للتضحية بالاقتصاد لتلبية طموح بوتين في إعادة رسم البنية التحتية الأمنية التي كانت موجودة منذ نهاية الحرب الباردة، وذلك عبر حشد القوات على الحدود الأوكرانية والمخاطرة بالحرب.
وتؤكد الكاتبة أن هناك أسبابا تجعل هذه الحسابات المعقدة ممكنة، فعلى الرغم من سنوات من العقوبات والوباء فإن الاقتصاد الروسي مجهز بشكل أفضل من كثيرين للنجاة من الأزمة.
ومع ذلك، فإن الكاتبة تشير إلى أنه ليس هناك الكثير مما يمكن أن يخشاه بوتين في الداخل، فقد تراجعت المعارضة السياسية وأُجبرت على الصمت شبه التام حتى في الوقت الذي يتحسر فيه الروس العاديون على رواتبهم التي تتبخر بسرعة.
وتنقل هارتوج عن سيرغي غورييف كبير الاقتصاديين السابق في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، والذي يعمل الآن أستاذا في معهد الدراسات السياسية بباريس (Sciences Po) قوله لموقع بوليتيكو إن "السياسة الخارجية أكثر أهمية لبوتين من العواقب الاقتصادية.. في الديمقراطيات، مثل هذه القرارات لها ثمن سياسي، وفي روسيا بوتين لا يخشى الاستياء العام، فقد تم سحق المعارضة، وهو يعتقد أن الدعاية والرقابة ستمنعان الناس من معرفة مدى سوء الأمور".
إثر ضم روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014 فرض الغرب عقوبات عليها، مما أدى إلى انخفاض قيمة الروبل، ومع تفاقم العقوبات بسبب التدخل في الانتخابات وتقلب أسعار النفط وتفشي وباء كورونا لم يتعاف الروبل أبدا.
وتبين الكاتبة أن التداعيات والظروف الدولية عطلت الفكرة التي سوقها بوتين لأمد طويل للروس والتي تقوم على توفير ظروف معيشية أفضل حتى لو تم تقليص الحريات السياسية، لكنه قدم لهم شيئا آخر بدلا من ذلك، الحلم بإمبراطورية روسية صاعدة.
وتقول تاتيانا ستانوفايا مؤسسة شركة الاستشارات "آر بوليتيك" (R.Politik) "بدأ بوتين يؤمن بمهمته التاريخية، وأن الروس مدينون له وعليهم تفويضه بكل المسؤولية"، مضيفة "بالنسبة لبوتين، الذهاب إلى الحرب مع أوكرانيا هو شأن شخصي ومسألة حياة أو موت لروسيا".
وتستمر الكاتبة فتقول إن بوتين عبر عن هذه الرسالة العدوانية بعد صمت دام لأسابيع بشأن الأزمة الأوكرانية، وذلك خلال مؤتمر بالفيديو عقده مع الرياضيين الروس قبل ذهابهم إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، حيث قال "الروس لا يخافون من الصعوبات، إنها تجعلنا دائما أقوى وأكثر اتحادا وثقة".
وتلفت هارتوج في مقالها إلى أن الرئيس الروسي كان لديه سبب للثقة التي كان يتحدث بها، فروسيا مستعدة ماليا للضربات الاقتصادية الخارجية الآن أكثر مما كانت عليه في 2014، وربما يزيد ذلك ثقة القيادة في قدرتها على الصمود في وجه العاصفة القادمة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا تمتلك صندوق ثروة سياديا فيه ما يقارب 200 مليار دولار، والذي يمكن الاستفادة منه للمساعدة في استقرار الاقتصاد، حيث يقول غورييف "هناك تضخم، لكن يشار إلى أن لروسيا ميزة كبيرة على العديد من البلدان الأخرى وهي أنها إذا رفعت أسعار الفائدة فلن تواجه مشاكل في سداد ديونها السيادية".
كما أن الواقع اليومي لمعظم الأسر الروسية ليس إيجابيا، فمنذ ما يقارب عقدا من الزمن ظلت الرواتب الحقيقية في حالة ركود، وكان يتم تغطية ذلك من خلال زيادة الاقتراض، لكن المشاكل بدأت تظهر مؤخرا، حيث انتشرت العديد من القصص على مواقع التواصل الاجتماعي لمواطنين روس يشتكون من سوء المعيشة والاقتصاد.
وفي استطلاع رأي مستقل وصف أكثر من 40% من المشاركين الوضع الاقتصادي لروسيا بأنه سيئ أو سيئ للغاية، وبالنسبة للعديد من الروس فإن نسبة التضخم أعلى بكثير من المعدل الرسمي البالغ 8% الذي أعلنه وزير المالية أنطون سيلوانوف أواخر العام الماضي.
وقد وصلت المعاناة الاقتصادية إلى السجون، حيث تنقل الكاتبة عن المعارض البارز أليكسي نافالني رسالة تم نشرها عبر حسابه في موقع إنستغرام، والتي استعرض فيها أسعار عدد من المنتجات المعروضة في متجر السجن والتي لا يستطيع الكثير من المساجين شراءها لارتفاع ثمنها.
وحتى لو لم تؤد المواجهة الحالية إلى حرب مكلفة مع أوكرانيا فإن التقلبات تضع بالفعل ضغطا على الاقتصاد الروسي وعقوبات جديدة أكثر صرامة، والتي قد تشمل حظر روسيا من نظام سويفت الدولي للمدفوعات المالية واستهداف بنوكها، وستضع البلاد أمام تحدٍ غير مسبوق، حيث يقول غورييف "إنه حتى مع وجود الحواجز الوقائية سيظل الأمر مزعجا للغاية وسيؤدي إلى انخفاض الروبل، وهذا شيء سيشعر به الشعب الروسي جيدا، وسيسألون أنفسهم: من أجل ماذا هذه المعاناة؟".
وتؤكد استطلاعات الرأي أن روسيا لا تظهر حماسا للصراع المباشر مع أوكرانيا، وذلك على عكس ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، والذي أيده أغلبية الروس.
ونقلت الكاتبة عن مواطنين روس دعمهم الحرب الروسية على أوكرانيا، مشيرين إلى أنه من حق بوتين فعل ما يشاء دون أي معارضة كونه يحميهم من كل ما يحدث في العالم، كما أنه يوفر لهم الغذاء.
وتعتبر الكاتبة أن تفكير هؤلاء المواطنين يمتد حتى النخب الروسية، خاصة تلك التي جمعت ثروة هائلة في عهد بوتين من التكنوقراط ورجال الأعمال، والذين سيتم اختبار ولائهم لبوتين بشكل حقيقي في حال أدت تلك الحرب إلى فرض عقوبات تضر بمؤسساتهم وشركاتهم، فإن اعترضوا فإنهم مهددون بالاتهام بالخيانة وعدم الإخلاص للوطن.
وتختم الكاتبة مقالها بالتأكيد على أن هناك مجموعة واحدة فقط ستكون مستفيدة من تلك المواجهة (السيلوفيكي المتشددون) وهم حلفاء وأنصار بوتين في الجيش والأجهزة الأمنية، والذين يسوقون للرئيس الروسي صورة بسيطة مفادها أنها ليست مسألة ما إذا، ولكن متى ستتعرض روسيا لعقوبات شديدة لسبب أو لآخر.