يقول خبراء إن روسيا تواجه أزمة مصرفية، وركوداً عميقاً، وانهياراً هائلاً في مستويات المعيشة قد يقوض سلطة فلاديمير بوتين.
وزادت الحكومات الغربية الضغط على موسكو خلال عطلة نهاية الأسبوع، إذ كشفت عن جولة جديدة من العقوبات تسببت في انهيار الروبل بنسبة تصل إلى 30 في المئة عندما فتحت الأسواق الاثنين.
وحذر اقتصاديون من أن الروس العاديين سيشهدون ارتفاعاً في أسعار البضائع المستوردة، ما سيدفع معدل التضخم إلى 20 في المئة ويفتتح فترة من الاضطراب يتردد فيها صدى [تشبه] الاضطرابات التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي.
ونظراً إلى أن مشروعية بوتين تستند إلى صورته بوصفه رجلاً قوياً أبعد الفوضى التي سادت في تسعينيات القرن العشرين واستعاد الكرامة الروسية، تهدد أي علامات تشير إلى العودة إلى ظروف مماثلة بتقويض قبضة بوتين على السلطة، وفق دان أرنسون، المحلل لدى مؤسسة "جي بي دبليو" الاستشارية في مجال المخاطر السياسية.
وقال أرنسون: "إذا كان أي شخص يعاني من أي أوهام بأن العقوبات ستكون غير مؤلمة إلى حد كبير، من الواضح أن هذه الأوهام قد بُدِّدت الآن.
"فهذا الوضع سيخلف أثراً شديداً في المواطنين الروس العاديين".
وخفض المحللون توقعاتهم للاقتصاد الروسي الاثنين، ورجحوا أن يتقلص بمقدار 10 في المئة تقريباً هذا العام، وقالوا إن عقوبات إضافية قد تُفرَض.
ما هي العقوبات التي أُعلِن عنها؟
على الرغم من أن روسيا سعت إلى شحذ استخدامها لنوع جديد من حرب المعلومات لإضعاف حلفاء الغرب، يمثل التصعيد السريع للعقوبات المالية الاستخدام الأكثر طموحاً [الأبعد مدى] من قبل الغرب حتى الآن لأسلحته الاقتصادية.
وقد يؤدي اتخاذ إجراءين إلى إلحاق الضرر الشديد بقدرة روسيا على التجارة مع أصقاع العالم الأخرى وعلى دعم اقتصادها.
أولاً، من المقرر منع عدد من المصارف الروسية من استخدام نظام "سويفت" للمراسلة، وهو جزء أساسي من البنية التحتية التي تستخدمها المصارف لنقل تفاصيل المدفوعات بأمان.
ومن دونه تصبح التجارة أكثر صعوبة بكثير. وعلى الرغم من إعفاء صادرات الطاقة، يواجه تجار السلع قدراً كبيراً من عدم اليقين في شأن المخاطر التي قد يتعرضون إليها في التعامل مع الجهات الروسية الخاضعة للعقوبات، وهذا يعني أن صادرات النفط والغاز الروسية مهددة.
والأمر الأكثر إضراراً هو أن أصول المصارف المركزية الروسية المحتفظ بها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ستُجمَّد. ويحد هذا الإجراء بشدة من قدرة روسيا على دعم عملتها المنهارة.
التضخم المتفشي
يعني الهبوط الكبير في قيمة الروبل أن استيراد البضائع سيصبح أكثر تكلفة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى هبوط سريع درامي في مستويات المعيشة.
ويتوقع ليام بيتش، محلل الأسواق الناشئة في "كابيتال إيكونوميكس"، أن يرتفع معدل التضخم إلى 20 في المئة.
وتدخل المصرف المركزي الروسي لمحاولة مكافحة هذا الارتفاع، فرفع معدلات الفائدة بأكثر من الضعفين من 9.5 في المئة إلى 20 في المئة. ومن المرجح أن يؤدي الاقتراض المكلف إلى تقليص إضافي للنمو الاقتصادي.
ويقول بيتش، "ثمة مزيج سيئ يجمع معدل التضخم المرتفع حقاً ومعدلات الفائدة البالغة الارتفاع، ومن شأنه أن يؤثر سلباً في [حركة] الطلب في روسيا".
ومن المتوقع أن يؤدي هذا بدوره إلى فرض مزيد من الضغوط على مصارف البلاد.
السحب المكثف للأموال من المصارف والأزمة
يقول بيتش، "يبدو القطاع المصرفي وكأنه على شفير اندلاع أزمة عاصفة الآن". وأكدت تقارير بالفعل الأحد، وجود طوابير طويلة أمام المصارف الروسية إذ كان المواطنون يسعون إلى سحب أموالهم.
وبمجرد أن يبدأ السحب المكثف للأموال من المصارف يصبح من الصعب للغاية وقفه. وسعى المصرف المركزي الروسي إلى طمأنة الناس إلى أن أموالهم آمنة وحضهم على عدم سحب نقودهم.
ويقدم لنا التاريخ أدلة كثيرة على أن تأكيدات [تطمينات] كهذه تخلف في كثير من الأحيان الأثر المعاكس تماماً، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الذعر وينبه الناس إلى مشكلة محتملة.
ويتوقع بيتش أن تبدأ المصارف التي تخضع إلى ضغوط أقل في التراجع عن الإقراض، وهذا من شأنه أن يفرض ضغوطاً إضافية على الاقتصاد الروسي.
والعلامات على إجهاد الأنظمة المالية الروسية آخذة في الازدياد. فالمصرف المركزي الأوروبي حذر الاثنين من أن الذراع الأوروبية لأكبر مصرف في روسيا، "سبيربنك"، تواجه خطر الإفلاس بعدما سعى المودعون بسرعة إلى سحب أموالهم.
هل يمكن أن يحدث حظر تجاري؟
يقول هنري سميث، الشريك في مؤسسة "مخاطر التحكم" الاستشارية في مجال المخاطر، إن العقوبات التي تواجهها روسيا الآن لا ترقى إلى مستوى الحظر الاقتصادي، لكن هناك رغبة في المضي قدماً في حال تفاقم النزاع.
وتتلخص الخطوة المنطقية التالية في الاستهداف المباشر لقطاعات الطاقة والتعدين التي توفر قسماً كبيراً من دخل الحكومة الروسية.
وإذا صعد بوتين حملته في أوكرانيا، لا سيما مع مزيد من الخسائر في أرواح المدنيين، يصبح الحظر التجاري الكامل (الذي كان عصي الخيال من قبل كثر قبل أسبوع) وارداً الآن.
ولن يقتصر اتخاذ الإجراءات على الحكومات. فمن المتوقع أن ينسحب عدد متزايد من الشركات من المجالات الاستثمارية الروسية في الأيام المقبلة. وحتى في الحالات التي لا تشكل فيها هذه الاستثمارات انتهاكاً للعقوبات، قد تُعد المخاطر المالية والمخاطر على السمعة المترتبة على البقاء في روسيا كبيرة.
ومن بين الشركات التي تواجه ضغوطاً من أجل تصفية استثماراتها الروسية "شل" و"إكسون" وغيرها من شركات النفط، بعدما أعلنت "بريتيش بتروليوم" أنها ستبيع حصتها البالغة 20 في المئة في "روسنفت" الروسية للنفط.
كيف يمكن لروسيا أن تتعامل مع هذا التهديد؟
كانت الخيارات أمام روسيا في التعامل مع الأزمة، ودعم عملتها ودرء الانهيار الاقتصادي، محدودة للغاية بفعل العقوبات المفروضة على مصرفها المركزي.
فعندما تنخفض قيمة عملة أي دولة في شكل حاد، يبيع المصرف المركزي في الأغلب احتياطياته من النقد الأجنبي ويشتري عملته لدعم قيمتها.
ومن أجل مقاومة العقوبات الغربية المحتملة، جمعت روسيا في السنوات الأخيرة 643 مليار دولار كاحتياطيات من العملات الأجنبية، مثل الدولار واليورو واليوان. لكنه الآن سيجد صعوبة بالغة في استخدام هذه الاحتياطيات.
فنصف أصول المصرف المركزي الروسي المحتفظ بها في الغرب مجمدة، وهناك عقبات عملية كبيرة تحول دون بيع النصف الآخر المحتفظ به في روسيا والصين وكيانات أخرى ذات سيادة.
بالتالي لا يستطيع المصرف المركزي دعم الروبل في شكل فاعل، وهذا يعني أن مزيداً من الهبوط ممكن، الأمر الذي يؤدي إلى جر مستويات المعيشة إلى مزيد من الانخفاض.
الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية
اندلعت احتجاجات شعبية صغيرة النطاق في روسيا، وقد تتوسع إذا لم تنجح الحرب، وتصاعد عدد الضحايا، وواجه المواطنون العاديون مصاعب شديدة، وفق خبراء.
ويقول دان أرنسون من "جي بي دبليو": "يتطلب الاحتجاج في روسيا قدراً لا يمكن تصوره من الشجاعة. لكن مع تأثر مستويات معيشة الناس، من الواضح أن اليأس يتزايد".
وبات من الواضح غياب موجة ضخمة من التأييد الشعبي الروسي لغزو أوكرانيا، الذي روجت له لدى الناس دعاية الكرملين باعتباره عملية دفاعية محدودة وضرورية.
ويقول أرنسون إن تزايد الخسائر سيجعل هذا الموقف يبدو غير واقعي على نحو متزايد في نظر المواطنين الروس العاديين.
وعلى الرغم من أن التعطل الاقتصادي الهائل من شأنه أن يفرض ضغوطاً على بوتين، لا تزال سلطته تستند إلى دعم مجموعة صغيرة من أنصاره من أصحاب المليارات، الذين يخضع كثر منهم لعقوبات منذ سنوات.
وفي الأيام الأخيرة، ظهرت علامات على أن الدعم في صفوف هذه المجموعة ربما يتآكل. فقد أدان أوليغارشيان روسيان، هما ميخائيل فريدمان وأوليغ ديريباسكا، غزو موسكو لأوكرانيا. وقد يشعر بوتين بأنه قادر على تجاوز أي اضطرابات في الداخل، لكن هناك مجموعة من الأنصار لا يستطيع ببساطة أن يتكبد خسارتها.