"حان وقت النهضة النووية"، بهذه العبارة رسم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخطوط العريضة لسياسة الطاقة الفرنسية لعام 2050، يوم الخميس العاشر من فبراير/شباط الماضي في مدينة بلفور الصناعية (شرقي البلاد)، ليكون البرنامج النووي الأكثر طموحا في العالم بعد برنامج الصين.
ومن المتوقع أن يعتمد -من بين أمور أخرى- على بناء 6 مفاعلات من الجيل الجديد من طراز "إي بي آر 2" (EPR2)، يدخل أولها الخدمة عام 2035، فضلا عن تمديد خدمة محطات الطاقة الحالية إلى ما بعد 50 عاما.
شهدت مواقف ماكرون كثيرا من المفارقات في ما يتعلق بالملف النووي، خاصة بعد تأجيله الموعد النهائي لخفض حصة الطاقة النووية في مزيج الكهرباء الفرنسي وإغلاق المصنع الألزاسي المهم في فيسنهايم.
وفي بلفور، أعلن عن مشروع إحياء الطاقة النووية عن طريق بناء مفاعلات جديدة بالتعاون مع شركة كهرباء فرنسا "إي دي إف" (EDF) المملوكة للدولة بنحو 84%، بتمويل ضخم يصل إلى عشرات المليارات من اليورو.
ولا يعد برنامج ماكرون نوويا بالكامل، إذ من المتوقع إطلاق 50 توربين رياح بحريا، أي في البحر المفتوح، للحصول على 40 غيغاوات في الخدمة ومضاعفة إنتاج الطاقة الشمسية بمقدار 10 أضعاف بهدف تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، مع إنتاج ما يصل إلى 60% من الكهرباء، لتحل محل الوقود الأحفوري.
يرى مراقبون أن الانفجار في فواتير الكهرباء في الفترة الأخيرة يجعل إحياء القطاع النووي أمرا عاجلا، خاصة مع تداعيات الحرب في أوكرانيا.
ويبدو أن اختيار إيمانويل ماكرون الكشف عن رهانه النووي في بلفور مرتبط برغبته في طي التزاماته وهفواته السابقة بعد أن أشرف على بيع فرع الطاقة، الذي ينتج التوربينات لمحطات الطاقة النووية في شركة "ألستوم" (Alstom) الفرنسية إلى شركة "جنرال إلكتريك" (General Electric) الأميركية عام 2015، عندما كان نائبا للأمين العام للإليزيه ثم وزيرا للاقتصاد.
ولم تقتصر هذه الصفقة آنذاك على خسارة فادحة لمهارات 1300 عامل فحسب، وفقا لرئيس بلدية المدينة داميان ميسلو، بل زادت من التساؤلات أيضا حول قدرة فرنسا الفعلية على تنمية وتقوية جاذبية المهن النووية وإعادة المعرفة الوطنية وإتقان الصناعة.
يذكر أن "خطة ميسمير"، التي تم إنشاؤها لتقليل اعتماد فرنسا على النفط في مواجهة ارتفاع أسعار الذهب الأسود بمقدار 4 أضعاف، أتاحت لفرنسا وسائل مهمة للغاية لإنتاج الكهرباء بفضل هذا البرنامج الذي أطلق بناء 13 مفاعلا نوويا عام 1974.
وقد أسهمت الخطة آنذاك بضمان انبعاث 6 إلى 10 غرام من الكربون فقط لكل كيلووات ساعة منتجة، مقارنة بألف غرام للفحم في محطات الطاقة المحروقة ونحو 500 غرام لمحطات الطاقة التي تعمل بالغاز الطبيعي.
ويرى مراقبون أن الانفجار في فواتير الكهرباء في الفترة الأخيرة يجعل إحياء القطاع النووي أمرا عاجلا، خاصة مع تداعيات الحرب في أوكرانيا.
ويؤكد الرئيس السابق للجمعية الوطنية، برنار أكوييه، ضرورة مراجعة سياسة الطاقة في فرنسا، لضمان استقلاليتها في هذا المجال من خلال إعادة إطلاق قطاعها النووي من دون تأخير.
وفي 17 مارس/آذار الماضي، اقترح إيمانويل ماكرون مزيجا من الطاقات النووية والمتجددة وتنظيم أسعار الكهرباء على المستوى الفرنسي والأوروبي، خلال تقديم برنامج حملته الانتخابية. وهو ما يعني أن الحكومة قد تجد نفسها أمام تحد كبير يتمثل في تحرير موارد جديدة لتمويل الطاقة النووية.
في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى أوكرانيا ورئاسة إيمانويل ماكرون لمجلس الاتحاد الأوروبي، تخضع تحركات وتصريحات الرئيس المنتهية ولايته إلى التدقيق عن كثب أكثر من أي وقت مضى، مما يترك الباب مفتوحا أمام معارضيه لإلقاء نظرة نقدية على سياسته السابقة التي خفضت حصة الطاقة النووية إلى 50% من إنتاج الكهرباء عام 2017.
إذ انتقد المرشح البيئي، يانيك جادوت، مشروع ماكرون النووي في عمود نُشر في صحيفة "لوموند" (Le Monde) قال فيه إن "إيمانويل ماكرون يحكم على فرنسا بطاقة في حالة سكر".
وأضاف جادوت أن "رئيس الجمهورية يتجاوز ولايته من خلال التخطيط لمشروع طاقة ضخم من دون أي يقين بشأن تكلفته الإجمالية، ومن دون أي حل للخروج من المأزق المتعلق بإدارة النفايات".
في حين انتقدت ماري توسان -مستشارة جادوت- "نيات ماكرون الحسنة" في ما يتعلق بالطاقات المتجددة في فرنسا، التي أدينت عدة مرات بتقاعسها في ملف المناخ، متسائلة عما فعله الرئيس في السنوات الخمس الماضية عندما "كان تطوير مصادر الطاقة المتجددة ضروريا للغاية".
وعلقت المرشحة الاشتراكية وعمدة باريس، آن هيدالغو، على إستراتيجية رئيس الدولة باعتبارها "غير جادة ولا تحترم ديمقراطيتنا، لأن الأولوية اليوم تتمثل في إجراء نقاش مفتوح وشفاف حول تحول الطاقة".
ورغم تأييد اليمين للخطط النووية والاستمرار في المراهنة على محطات الطاقة المتجددة، فإن المرشح اليميني إريك زمور سخر من "الانقلاب الانتخابي" الذي "لن يمحو سياسة الطاقة الكارثية لماكرون"، على حد قوله.
من جهتها، لم تتأخر منافسة اليمين المتطرف مارين لوبان عن انتقاد "استعراض" الرئيس في بلفور في شركة ألستوم "التي نظم عملية نهبها"، في إشارة إلى عملية البيع التي تمت عام 2015.
ويذكر أن لوبان قدمت "خطة ماري كوري" للحصول على 80% من الطاقة النووية بحلول عام 2050، في 14 مارس/آذار الماضي، لتعزيز الطاقة الكهرومائية وتطوير الهيدروجين بقوة.