يبقى الإنسان في حالة شقاء ما دام يشعل دوائر الصراع في إطار السعي للسيطرة على موارد غيره، وسيظل الغذاء هو السلعة الإستراتيجية التي لا يمكن أن يتم الاستغناء عنها، فبدونها فناء البشر.
وفي ضوء التداعيات السلبية التي أفرزتها أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا تأججت أسعار الغذاء في السوق الدولية بسبب تعطيل صادرات الغذاء والحبوب من أوكرانيا وروسيا، فضلا عن تهديدات تخص نقله وما يتطلب من أمن للسفن والعاملين في الزراعة والنقل.
وثمة مخاوف أكبر حول مستقبل الأمن الغذائي في العالم إذا ما توسعت الحرب الروسية على أوكرانيا جغرافيا لتشمل دولا أخرى أو توسعت نوعيا بأن يتم استخدام أسلحة الدمار الشامل، ومن هنا فالجميع يسعى لأن تنتهي هذه الحرب دون دفع فاتورة باهظة على الصعيد الاقتصادي عموما، وعلى صعيد الغذاء خصوصا.
إن العالم قلق من تأخر نحو 25 مليون طن من الحبوب لا تزال عالقة في موانئ أوكرانيا بسبب الحرب، وذلك وفقا لما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وثمة مساع من قبل الأمين العام لدى الدول المتصارعة للإفراج عن هذه الشحنات وتيسير حركة السفن الخاصة بالغذاء.
وفي ضوء هذه المخاوف نحاول في هذه السطور إلقاء الضوء على خريطة إنتاج وتجارة الغذاء في العالم، ومعرفة مكامن الثقل الإنتاجي، ومدى تأثيره على مستوى العالم.
حسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" (FAO)، فإن العالم في عام 2019 استطاع إنتاج 9.35 مليارات طن من المحاصيل الأولية (الحبوب، والمحاصيل السكرية، والخضروات، والمحاصيل الزيتية، والفاكهة، والجذريات، والدرنيات).
وعلى مستوى أقاليم العالم فإن خريطة الإنتاج توضح أن إقليم آسيا يتصدر أقاليم العالم ويقترب من نسبة 50% من إنتاجه من المحاصيل الأولية، إذ بلغت حصته 4.6 مليارات طن، تليه الأميركتان بحصة أقل وبفارق كبير عند 2.5 مليار طن، فيما تحل أوروبا في المرتبة التالية بحصة قدرها 1.1 مليار طن من المحاصيل الأولية، ثم أفريقيا بنصيب يبلغ 946 مليون طن، وفي ذيل القائمة إقليم أوقيانوسيا بحصة إنتاج تبلغ 91 مليون طن.
لكن إذا ما انتقلنا إلى نصيب الدول في إنتاج المحاصيل الزراعية الأولية فسنجد الصين في صدر القائمة تتبعها الهند، وهذا طبيعي بحكم أمرين مهمين، وهما كبر المساحة الجغرافية للبلدين وكذلك عدد السكان، فالبعض يطلق على البلدين مجازا مسمى "قارة".
بلغت صادرات الغذاء على مستوى العالم في عام 2019 نحو 1.83 تريليون دولار، وكانت صادرات الخضروات والفاكهة في قائمة هذه الصادرات من حيث القيمة، إذ بلغت 274 مليار دولار، تليها الحبوب بـ193 مليار دولار، ثم اللحوم بـ155 مليار دولار، فالمشروبات بـ114 مليار دولار، ثم منتجات الألبان والبيض بـ84 مليار دولار، فالزيوت والدهون بـ81 مليار دولار، ثم السكر والعسل بـ41 مليار دولار.
أما عن المناطق الجغرافية على مستوى العالم فقد حققت أوروبا أعلى صادرات في هذا العام وذلك بقيمة 593 مليار دولار، تبعتها الأميركتان بـ369 مليار دولار، ثم آسيا بـ309 مليارات دولار، فإقليم أوقيانوسيا بـ56.6 مليار دولار، وتأتي أفريقيا في ذيل القائمة بنحو 52.7 مليار دولار.
وعن أداء الدول في صادرات الغذاء تتصدر أميركا دول العالم بقيمة 120 مليار دولار، ثم هولندا بـ82 مليار دولار، فالصين بـ80 مليار دولار، ثم ألمانيا بـ68 مليار دولار، فالبرازيل بـ67 مليار دولار، ويلاحظ أن قائمة الدول العشر الكبرى في صادرات الغذاء كلها أوروبية باستثناء أميركا والصين والبرازيل.
أما عن واردات الغذاء على مستوى العالم فنجد أن أوروبا تتصدر أيضا قائمة أقاليم العالم من حيث واردات الغذاء في عام 2019 بقيمة 560 مليار دولار، تليها آسيا بـ485 مليار دولار، ثم الأميركتان بـ264 مليار دولار، فأفريقيا بـ80 مليار دولار، ثم إقليم أوقيانوسيا بـ20 مليار دولار.
وبشأن أداء الدول تجاه استيراد الغذاء نجد الصين على رأس الدول المستوردة له بقيمة 170 مليار دولار، تليها أميركا بـ151 مليار دولار، ثم ألمانيا بـ82 مليار دولار، فاليابان بـ60.7 مليار دولار، ثم هولندا بـ60.1 مليار دولار، وعلى مستوى الدول العشر الكبار لاستيراد الغذاء نجد أن القائمة تضم دولا أوروبية باستثناء الصين وأميركا واليابان وكندا.
تأتي تهديدات الأمن الغذائي العالمي جراء إدارة الأزمة، وليس من حيث كميات الغذاء، فروسيا قيدت صادراتها من الحبوب منذ اندلاع الحرب، مما ساعد بشكل كبير على ارتفاع أسعار المواد الغذائية في السوق العالمي، كما أن القيود التي فرضتها الحرب على صادرات أوكرانيا من الزيوت والحبوب أدت لنفس النتيجة أيضا.
ولم تتوقف التهديدات على هذا الجانب فقط من خلال أداء طرفي الأزمة، ولكن أطرافا أخرى فاعلة في إنتاج وتجارة الغذاء اتخذت إجراءات تؤدي إلى خلخلة معادلة الأمن الغذائي العالمي، منها قرار الهند حظر صادراتها من القمح، وكذلك رفض الصين تلبية مطلب الاتحاد الأوروبي بالإفراج عن جزء من احتياطياتها من الحبوب من أجل تهدئة الأسعار في السوق الدولية.
وتكتمل الحلقة بتلك المخاوف التي تمر بها بلدان فقيرة أو مديونة تعتمد بشكل رئيسي على استيراد جزء كبير من احتياجاتها من الغذاء، خاصة من روسيا وأوكرانيا، وتمثل هذه الأزمة أحد أكبر مهددات النظام التجاري العالمي الذي اعتمد على نظرية الميزة النسبية في إنتاج وتجارة الغذاء، لكن على ما يبدو أن الصراع الحالي بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا ستكون له تداعيات سلبية متعددة على النظام الاقتصادي العالمي بكل مكوناته، ويتطلب ذلك أن يعيد الجميع حساباته، خاصة في قضية شديدة الأهمية مثل الأمن الغذائي.