دفعت الأزمة الأوكرانية أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2014. لكن الأسعار كانت بالفعل تتجه صعودا حتى قبل الأزمة، حيث كان المنتجون والمصافي بطيئين في تلبية قفزة الطلب بعد تراجع جائحة كورونا. دفع ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم البنوك المركزية إلى تشديد السياسات النقدية ورفع أسعار الفائدة، ما سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي. يبدو الآن التباطؤ في النمو الاقتصادي العالمي حتميا بسبب سياسات التشديد النقدي الصارمة، وأسعار الديزل والبنزين القياسية.
كما وضعت الأزمة الأوكرانية ضغوطا إضافية على أسعار المواد الغذائية وسلاسل التوريد العالمية. وأدى الحظر المفروض على النفط الروسي في الغرب إلى زيادة تشدد أسواق الوقود العالمية، في حين أن طاقة التكرير العالمية الآن أقل بنحو ثلاثة ملايين برميل يوميا عما كانت عليه قبل الوباء.
وبدأ المحللون في التحذير من أن معظم فترات الركود خلال نصف القرن الماضي سبقتها فترة ارتفاع أسعار النفط. بالفعل ارتفعت احتمالات حدوث ركود، لكن هذه النتيجة ليست السيناريو الأساسي لعديد من المحللين والبنوك الاستثمارية الذين يقولون إن الركود ليس حتميا بعد.
من الناحية النظرية، قد يؤدي الارتفاع القياسي لأسعار الوقود والتباطؤ الاقتصادي أو الركود، إلى انخفاض نمو الطلب على النفط من خلال تدمير الطلب وتباطؤ النشاط الاقتصادي. من الناحية العملية، قد يؤدي انتعاش الطلب بعد فيروس كورونا، موسم السفر الصيفي، ونمو الأجور، إلى تأخير تراجع الطلب في الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك الافتقار إلى الطاقة العالمية الفائضة في كل من إنتاج النفط وتكريره، تشكل نظام عالمي جديد في تدفقات تجارة النفط بعد الأزمة الأوكرانية، وأسعار نفط مدعومة جيدا على المدى القصير إلى المتوسط.
بالفعل، قام المحللون ومختلف المنظمات الدولية، بتعديل توقعات النمو الاقتصادي بالخفض لهذا العام والعام المقبل، لكنهم ما زالوا يتوقعون زيادة الطلب على النفط ليتجاوز مستويات ما قبل الوباء قريبا وعدم حدوث ركود كسيناريو أساسي. على سبيل المثال، قال البنك الدولي أخيرا إن الأزمة الأوكرانية ضاعفت التباطؤ في الاقتصاد العالمي، الذي يدخل في فترة طويلة من النمو الضعيف والتضخم المرتفع، ما يزيد مخاطر الركود التضخمي. يتوقع البنك الدولي الآن نموا اقتصاديا عالميا عند 2.9 في المائة عام 2022، وهو أقل بكثير من 4.1 في المائة الذي كان متوقعا في كانون الثاني (يناير).
من المؤكد أن التنبؤ بالاتجاهات العالمية للطلب على النفط والاقتصاد عند اندلاع حرب في أوروبا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية يمثل حالة من عدم اليقين في حد ذاته. لكن الظروف غير العادية لسوق النفط العالمية يمكن أن تؤدي إلى نتيجة لن تنخفض فيها أسعار النفط بشدة حتى لو دخل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة تقنيا في حالة ركود.
الطلب على البنزين في الولايات المتحدة قوي رغم الأسعار المرتفعة القياسية التي وصلت إلى المتوسط الوطني البالغ خمسة دولارات للجالون أخيرا. في الواقع، بناء على الطلب الذي تشهده الأسواق الآن، يبدو أن الأسعار المرتفعة لم تردع السائقين حقا. إذا بقيت أسعار البنزين عند خمسة دولارات أو أعلى لفترة طويلة، فقد نرى المستهلكين يبدأون في تغيير عادات القيادة اليومية أو نمط حياتهم، لكن ذلك لم يحدث بعد.
رغم ارتفاع الطلب على البنزين بشكل موسمي، إلا أنه لا يزال أقل بكثير من المستويات القياسية السابقة، لكنه يظل مثيرا للإعجاب في ظل ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية في جميع الولايات المتحدة وأوروبا. إذا بدأ الارتفاع في الأسعار أخيرا في إبطاء ارتفاع الطلب، فقد تشهد السوق بعض التنفس، لكن في الوقت الحالي، يبدو أن الأمريكيين خصوصا يبرهنون على قدرتهم على الصمود لتسجيل ارتفاعات قياسية.
ففي أحدث تقرير شهري لها الثلاثاء الماضي، تركت "أوبك" تقديراتها لنمو الطلب العالمي على النفط لعام 2022 دون تغيير عند 3.4 مليون برميل يوميا مقارنة بطلب 2021. وتوقع التقرير أن يتجاوز الاستهلاك العالمي حاجز 100 مليون برميل في اليوم في الربع الثالث، بما يتماشى مع التوقعات السابقة، وأن يصل متوسط عام 2022 إلى نحو 100.29 مليون برميل يوميا، أي: أعلى بقليل من معدل ما قبل الوباء عام 2019. حيث إن المنظمة ترى أن الاستهلاك لا يزال قويا، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة، مع انتعاش مستمر متوقع يتجلى خصوصا في قطاع الخدمات كثيفة الاستهلاك التي تشمل أنشطة السفر والنقل والترفيه والضيافة.
ومع ذلك، أشارت المنظمة إلى مخاطر سلبية كبيرة، بما في ذلك الأزمة الأوكرانية، فيروس كورونا، ارتفاع التضخم، تفاقم مشكلات سلسلة التوريد، مستويات الديون السيادية المرتفعة في عديد من المناطق، والتشديد النقدي المتوقع من قبل البنوك المركزية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان، ومنطقة اليورو.
وأضاف التقرير"بمجرد انتهاء العطلة الصيفية، سيبقى أن نرى إلى أي مدى يؤدي التضخم، أي ارتفاع تكاليف المعيشة والتشديد المالي وزيادة عدم اليقين الجيوسياسي، إلى إضعاف ديناميكية النمو في نهاية العام. من المرجح أن تستمر الضغوط التضخمية ويظل من غير المؤكد إلى حد كبير متى يمكن حل القضايا الجيوسياسية. مع ذلك، من المتوقع أن يكون الطلب على النفط عند مستويات جيدة في النصف الثاني من هذا العام".
*نقلا عن صحيفة "الاقتصادية".