في محاولة منه لكبح جماح التضخم المرتفع، قام البنك المركزي الأوروبي الأسبوع الماضي برفع معدلات الفائدة 50 نقطة أساس للمرة الأولى منذ عام 2011.
وتأتي هذه الخطوة -التي دخلت حيز التنفيذ الخميس الماضي- في الوقت الذي تكافح فيه أوروبا تضخمًا قياسيًا تغذيه مخلفات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، إذ قفز معدل التضخم السنوي في السوق الأوروبية إلى 8,9% يوليو/تموز الماضي، بعد 8,6% يونيو/حزيران الماضي، حسب بيانات مكتب الإحصاءات الأوروبي "يوروستات" (Eurostat)، وفاقت النسبة المرتفعة للتضخم توقعات المركزي الأوروبي بأكثر من 4 أضعاف حيث كان يستهدف 2%.
وتهدد الاقتصاد الأوروبي حاليا مجموعة من المخاطر جراء رفع الفائدة، حسب رأي الخبراء الاقتصاديين، أبرزها احتمال دخول الاقتصاد الأوروبي فترة ركود.
نتيجة الاختلالات المرتبطة بجائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية وما أحدثته من تغيرات وضغوطات كبيرة، استجابت المصارف المركزية العالمية بشكل سريع لارتفاع مستوى التضخم، وخاصة البنك الفدرالي الأميركي الذي رفع سعر الفائدة 4 مرات خلال العام الجاري، كان آخرها 75 نقطة أساس.
في حين تسبب تأخر قرار المركزي الأوروبي في رفع الفائدة، في انهيار سعر صرف اليورو مقابل الدولار حتى وصل إلى مستويات قياسية لم يبلغها منذ 20 عاما.
من جانبه، أشار الدكتور حسن عبيد رئيس مركز الأبحاث والتنمية الاقتصادية في باريس، وأستاذ العلوم المالية والمصرفية في مدرسة باريس للأعمال، إلى أن هذا التأخر يعود لسببين: الأول إداري هيكلي، والثاني مالي.
وأضاف للجزيرة نت أن "السبب الهيكلي يعود لكون الاتحاد الأوروبي مجموعة دول، وليس مجموعة ولايات مثل الولايات المتحدة يتخذ فيها القرار بسرعة من بنك مركزي واحد. لذلك، فعملية أخذ القرار من المركزي الأوروبي معقدة جدا، إذ تجب موافقة معظم الدول بعد الدخول في نقاشات طويلة".
وتابع أن "السبب المالي متعلق بالدول التي عليها ديون كثيرة، مثل إيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا. فإذا تم اتخاذ قرار رفع سعر الفائدة، فهذا الأمر سيؤدي آليا إلى زيادة تكاليف الديون على هذه الدول. ولذلك تم التأني في القرار لإيجاد حلول لهذه الدول في كيفية شراء السندات أو جزء منها ثم رفع أسعار الفائدة".
وبالتوازي مع ذلك، يرى الدكتور آلان صفا أستاذ الاقتصاد والجغرافيا السياسية في جامعة نيس، ورئيس الجمعية الاقتصادية الفرنسية سيمافي الدولية، أن التأخر يرجع إلى أن البنك المركزي الأوروبي أراد أن يبقي الفوائد المنخفضة للتضخم من أجل مساعدة البلدان الضعيفة على تخطي ديونها الثقيلة.
ويستكمل آلان صفا حديثه قائلا: "حينما تبدأ الدول في رفع نسبة الفائدة، تبدأ الشركات الخاصة مباشرة في رفع نسبة الفائدة على ديونها للمدى الطويل، خاصة بالنسبة للعقارات وللاستثمارات، والشيء نفسه بالنسبة للمستهلكين. وحينما ترتفع فوائد الديون لهذه الفئة، تتدنى كمية القروض، وهذا يؤدي إلى تباطؤ في العجلة الاقتصادية وإلى انخفاض نسبة النمو، وارتفاع نسبة البطالة، وتدني نسبة الإنتاج".
ويخلص صفا إلى أن هناك نتائج إيجابية لرفع نسبة الفائدة عن طريق خفض التضخم، ولكن أيضا هناك نتائج سلبية، لذلك فسياسة البنوك المركزية هي تحقيق نوع من التوازن بين الإيجابيات والسلبيات.
أكدت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي الأوروبي الأسبوع الماضي أن هدفها من رفع سعر الفائدة هو خفض مستوى التضخم إلى 2%، "من خلال تعزيز ترسيخ توقعات التضخم وضمان تكييف ظروف الطلب لتحقيق هدف التضخم على المدى المتوسط".
من جهته، يتخوف عبيد من أن رفع سعر الفائدة بـ0.5% هو معدل ضئيل جدا مقارنة بمعدل التضخم 8.9%. وبالتالي، لن يؤدي هذا إلى أي نتائج ملموسة على أرض الواقع من حيث تراجع نسبة التضخم المرتفعة، وتحسن في الوضع الاقتصادي، وإنما سيؤدي إلى الانكماش الاقتصادي.
ويتابع مشددا أن هذا التخوف ليس أوروبيا فحسب، وإنما هو تخوف عالمي أيضا؛ لأنه في الولايات المتحدة ورغم رفع سعر الفائدة أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية، فإنه لم تتم السيطرة على التضخم بعد. ولن تتم السيطرة عليها أيضا في المنظور القريب.
ويرى صفا أن إشكالية ارتفاع التضخم أعمق من قوة الطلب على المواد الأولية، وإلا فإن رفع الفائدة سوف يجعلها تتراجع، وبالتالي سيتراجع التضخم. لذلك يشرح أن أسعار المواد الأولية والطلب عليها لديهما علاقة وثيقة بالعلاقات الجيوسياسية، وعندما تتدهور هذه العلاقات، سوف تبقى أسعار المواد الأولية مرتفعة، وهذا طبعا لا يمكن محاربته فقط بالسياسة المالية.
ويشير إلى أن التوقعات الاقتصادية تبقي التضخم مرتفعا في السوق الأوروبية وفي الولايات المتحدة حتى عام 2024.
لمواجهة تحدي مساعدة دول الاتحاد الضعيفة التي تعاني من مديونية مرتفعة على غرار إيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا، أعلن المركزي الأوروبي -تزامنا مع إعلانه رفع الفائدة- أداة جديدة مخصصة للأزمات أطلق عليها "أداة مكافحة التجزئة".
يوضّح الدكتور حسن عبيد أن التحدي لا يواجه البنك المركزي الأوروبي فقط، وإنما يواجه الاتحاد الأوروبي بشكل عام؛ لأن البنك المركزي مسؤول فقط عن السياسة النقدية، ولكن سياسة الإنتاج واتخاذ القرار السياسي متعلق ببروكسل.
ويشرح ذلك قائلا "صحيح أن زيادة سعر الفائدة تؤدي مباشرة إلى إثقال كاهل الدول ذات المديونية العالية كإيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا، ولكن يبدو أن البنك المركزي واع بهذا الموضوع، ويقوم بما يسمى التيسير الكمي من خلال شراء سندات هذه الدول بمعدلات فائدة متفق عليها مسبقا ليخفف من حدة التكاليف على هذه الدول".
في ظل التناقض بين رفع سعر الفائدة من أجل كبح جماح التضخم وتراجع النمو والانكماش الاقتصادي، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية، يصبح الأفق الاقتصادي قاتما، بالنسبة للنصف الثاني من عام 2022 وما بعده.
وللخروج من هذا المأزق، يقول الدكتور حسن عبيد "الحل يكمن في تحسين عجلة الإنتاج والاستهلاك الداخلي والحث عليهما، لأن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الادخار والتقليل من الاستهلاك".
وفي المقابل، يؤكد الدكتور ألان صفا أن المخرج من الأزمة على المدى المتوسط، هو الاستمرار في رفع الفائدة بطريقة تدريجية حتى لا يكون هناك هبوط قوي للمنظومة الاقتصادية.
ولأن السياسة المالية ليس بإمكانها أن توفر كل الحلول، ينصح صفا بتدخل الحكومات من أجل مساعدة المستهلكين والمستثمرين على تحمل تبعات هذه الفترة، لأن الحفاظ على القدرة الشرائية سوف يسمح بعدم الانكماش القوي للاقتصاد.