لفتت العملة الأوروبية الموحدة الأنظار إليها في الفترة الأخيرة، وأصبحت حديث كل لسان بعد الهبوط التاريخي الذي تعرضت له خلال الفترة الأخيرة حين انخفض سعر صرف اليورو إلى مستوى مكافئ لسعر صرف الدولار، وذلك للمرة الأولى منذ 20 عاما.
ومن الفكرة وحلم التأسيس، مرورا بإطلاقه رسميا في الأول من يناير/كانون الثاني 1999، ووصولا إلى احتلاله المرتبة الثانية في سوق صرف العملات الأجنبية بعد الدولار الأميركي، مرّ اليورو بعدة مسارات تراوحت بين القوة والضعف وبين الصعود والهبوط.
وفي السطور التالية سنتعرف على المحطات الرئيسية في تاريخ هذه العملة التي تستحوذ على خُمس المعاملات الدولية تقريبا، وسنستشرف المستقبل الذي ينتظرها في ظل المتغيرات الاقتصادية الإقليمية والدولية المتسارعة.
اليورو (EURO) هو العملة الرسمية لـ19 دولة من أصل 27 دولة أعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما يعد أيضا العملة الرسمية في 6 دول من غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
تُعرف مجموعة الدول هذه باسم منطقة اليورو، وتضم 350 مليون مواطن تقريبا، وفقا لإحصاءات عام 2021، الصادرة عن الاتحاد الأوروبي.
تقع مهمة تنظيم قيمة اليورو وسعر صرفه على عاتق البنك المركزي الأوروبي الذي يوجد مقره في مدينة فرانكفورت في ألمانيا.
فكرة العملة الأوروبية الموحدة قديمة من عمر الاتحاد الأوروبي نفسه، لكن تطبيقها بدأ عمليا عام 1970 من خلال "خطة فيرنر" التي طرحها رئيس الوزراء اللوكسمبورغي بيير فيرنر، التي كانت نواة الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي.
كان أمل هذه الخطة تطبيق عملة موحدة في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي بحلول عام 1980، لكن سرعان ما انهارت الفكرة وحل محلها عام 1972 اتحاد تصريف العملة الأوروبي، ولاحقا عام 1979 النظام النقدي الأوروبي.
هدف النظام النقدي الأوروبي كان المحافظة على استقرار العملات المحلية، ولتحقيقه تم إنشاء عملة نقد شكلية لحساب تصريف العملة تحت اسم "إيكو" (ECU)، التي يمكن وصفها بأنها العملة الأوروبية الموحدة السابقة لليورو.
وفي عام 1988، تبنت اللجنة الأوروبية تحت رئاسة جاك ديلورس ما يسمى "تقرير ديلورس"، وهذا التقرير وضع الأساس لتطبيق تنفيذ العملة الأوروبية الموحدة عبر تطبيق 3 مراحل:
وتنص معاهدة ماستريخت على إلزام معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتبني اليورو عند استيفاء معايير معيّنة متعلّقة بالتوافق النقدي والميزانية.
وفي 15 ديسمبر/كانون الثاني، اتفق رؤساء الدول والحكومات المجتمعون في المجلس الأوروبي في مدريد على خارطة طريق لإدخال العملة الموحدة بحلول الأول من يناير/كانون الثاني 1999 على أبعد تقدير، وفي 16 ديسمبر/كانون الأول تم الاتفاق على تسمية العملة الجديدة "اليورو" بدل الاسم القديم.
وكانت هناك أسماء أخرى مقترحة، من بينها فرنك أوروبي، وغولدن أوروبي، وكرونا أوروبية، لكن كل هذه الاقتراحات فشلت إلى أن اقترح وزير المالية الألماني تيودور فايغل اسم "يورو".
تم إطلاق مسابقة أوروبية لتصميم عملة اليورو المستقبلية، وتم تحديد كل الشروط عام 1993 من قبل معهد النقد الأوروبي (إي إم آي)، الذي سبق المركزي الأوروبي.
وفي يونيو/حزيران فاز نموذج المصمم النمساوي روبرت كالينا بهذه المسابقة الخاصة بأول أوراق نقدية لليورو، وطُبعت تصميمات كالينا على 14.5 مليار ورقة نقدية تتراوح قيمتها بين 5 و500 يورو.
وفي الأول من يونيو/حزيران 1998 أعلن رسميا دخول البنك المركزي الأوروبي حيز العمل، وخلف بذلك معهد النقد الأوروبي.
يعد المركزي الأوروبي المقوّم الأساسي في نظام اليورو ونظام البنوك المركزية الأوروبية، وواحدًا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي السبع.
سمي الهولندي فيم دويسنبرغ أول رئيس للبنك المركزي الأوروبي، بينما ترأسه منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019 إلى اليوم الفرنسية كريستين لاجارد.
وفي الأول من يناير/كانون الثاني 1999، شهدت دول الاتحاد أوّل تعامل رسمي باليورو على المستوى المصرفي، وأُدرِج اليورو في الأسواق المالية العالمية بوصفه وحدة حساب نقدية، بنسبة قدْرها 1.1 (أي ما يعادل 1.1743 دولار أميركي).
ودخلت الأوراق النقدية لليورو حيّز التداول في الأول من يناير/كانون الثاني 2002، وأصبحت العملة اليومية للدول الـ12 الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي، وبحلول مارس/آذار 2002 حلّ اليورو محل العملات الوطنية لهذه الدول بشكل كامل.
وفي إطار سياسة التطوير نحو المستقبل التي أعلنها مسؤولو المركزي الأوروبي منذ عام، من المقرر أن يتبنى البنك المركزي الأوروبي تصميمات للأوراق النقدية الجديدة باليورو بحلول عام 2024.
وفي السياق نفسه، كشفت رئيسة المركزي الأوروبي كريستين لاجارد عن أنهم يخططون لابتكار عملة رقمية أوروبية في غضون سنوات، الأمر الذي من شأنه أن يحدث تغييرا جذريا في القطاع المالي لمنطقة اليورو.
خلال مسار عقدين من الزمن، تعرض اليورو للكثير من الضغوط والأزمات، وحقق نجاحات أيضا وفترات قوة، لكنه ما زال اليوم يتأرجح بين الصعود والهبوط والتذبذب خاصة بعد الهبوط التاريخي الذي تعرض له أمام الدولار منذ شهر نتيجة تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية.
وأشار البروفيسور حسن أيوب الخبير الاقتصادي الدولي والأستاذ المحاضر في عدة جامعات فرنسية إلى أن العملة الأوروبية تحتل مكانة مهمة بين العملات الرئيسية على الصعيد الدولي، وأنها منذ تأسيسها شهدت تغيرات كثيرة، ومرت بـ4 مراحل رئيسية في مسارها وفي أسعار صرفها مقابل الدولار.
وقال في حديثه للجزيرة نت إن "المرحلة الأولى تمتد من عام 2000 إلى عام 2008، وهي مرحلة القوة، حيث ارتفع سعر الصرف من 0.85 دولار في أكتوبر/تشرين الأول 2000 إلى 1.60 دولار في يوليو/تموز 2008. وأما المرحلة الثانية فتمتد من عام 2008 إلى عام 2015، وتتميز بالضعف، حيث تعرضت العملة الأوروبية إلى هبوط خلال هذه الفترة التي عرفت بأزمة الديون السيادية عام 2010، وتدحرجت قيمة اليورو إلى 1.10 دولار عام 2015″.
و"تشمل المرحلة الثالثة الأعوام من 2015 إلى 2021، وهي مرحلة استقرار قيمة اليورو عند 1.15 دولار، وأخيرا المرحلة الرابعة من عام 2021 حتى يومنا هذا، وعاد اليورو إلى الهبوط من جديد. وبعدما تعادل اليورو مع الدولار في 13 يوليو/تموز 2022، بدأ مرحلة جديدة من الهبوط ما زالت حتى اليوم".
وخلص أيوب إلى أن العملة الأوروبية انخفضت بين فترة تأسيسها وصيف 2022 بنحو 18%.
في ظل هذا التذبذب والتأرجح والهبوط والصعود، يطرح سؤال عن الآفاق المستقبلية لليورو أمام الدولار؟
ويرجع الخبير الاقتصادي الدولي هذا التذبذب والتراجع لليورو أمام الدولار إلى مجموعة عوامل ظرفية وجيوسياسية واقتصادية ونقدية.
ويرى أن انخفاض اليورو أمام الدولار سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار، ويؤثر بشكل سلبي على القدرة الشرائية والاستهلاك والنمو.
ويشدد أيوب على أن المركزي الأوروبي سيتعرض لتحديات كبيرة على صعيد استعادة السيطرة على التضخم لأن أسعار الواردات تزداد بسبب أزمة هبوط العملة الموحدة.
ويخلص إلى أن التوقعات الاقتصادية تشير إلى أن اليورو سيواصل المنحى الهبوطي خلال الأشهر القادمة ما دامت الأسباب التي أدت إلى تراجعه وتقلباته ما زالت قائمة، ومن المتوقع أن تواجه الاقتصادات الأوروبية تحديات اقتصادية واجتماعية تعرض الحلم الأوروبي (الوحدة) إلى الخطر وتفرض المزيد من التضامن.
المصدر : الجزيرة