واصل الجنيه المصري تراجعه أمام الدولار الأميركي إلى أدنى مستوى له على الإطلاق وتجاوز 24 جنيها، بعد قرار البنك المركزي اعتماد نظام سعر صرف مرن بشكل دائم، الأسبوع الماضي، استنادا لآلية العرض والطلب في السوق.
يأتي هذا النظام الجديد في إطار قرار المركزي المصري عدم ربط العملة المحلية بالدولار فقط، إنما بسلة من العملات الأجنبية والذهب تمهيدا لإصدار ما يسمى "مؤشر الجنيه" المصري والذي يتطلب تركه للعرض والطلب دون تدخل كبير من الدولة.
يقف على جانبي قرار التعويم الجديد، الذي تصفه الحكومة المصرية ومراقبون وخبراء بالصعب في ظروف استثنائية، رابحون وخاسرون كثر، لكن ستظل الرؤية غير واضحة حتى تنحسر موجة ارتفاع الدولار ويستقر سعر صرف الجنيه.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وصف أزمة الدولار بأنها "كاشفة" بالنسبة لمصر، وقال إن فاتورة الدولار تزيد عاما بعد آخر، مؤكدا أنه يتحتم على بلاده مسابقة الزمن لإنتاج ما تستورده من مستلزمات.
وفي تصريحات له على هامش فعاليات الملتقى والمعرض الدولي الأول للصناعة في القاهرة، أضاف السيسي -السبت- أنه يجب اتخاذ إجراء غير تقليدي لفترة زمنية محددة لتجاوز الوضع الاقتصادي الذي تمر به مصر.
وللمرة الثالثة في غضون 6 سنوات، هوى الجنيه أمام الدولار الأميركي، وفقد أكثر من 50% من قيمته منذ مارس/آذار الماضي، حيث كان يبلغ متوسط سعر صرف الدولار 15.6 جنيها، والآن يتم تداوله فوق 24 جنيها.
على صعيدٍ متصل، توصلت مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الخميس الماضي -بعد مفاوضات شاقة وطويلة- تحصل بموجبه على تسهيل تمويل ممدد مدته 46 شهرا بقيمة 3 مليارات دولار.
ويمهد الاتفاق الحصول على تمويل إضافي يبلغ حوالي 5 مليارات دولار من الشركاء متعددي الأطراف والإقليميين، إضافة إلى مليار دولار من خلال صندوق الاستدامة وهي آلية جديدة اعتمدها الصندوق لمساعدة الدول النامية، ليصبح إجمالي المبلغ 9 مليارات دولار.
وقال البنك المركزي المصري الخميس أيضا إنه قرر زيادة أسعار الفائدة الرئيسية 200 نقطة أساس خلال اجتماع استثنائي للجنة السياسات النقدية.
بيانات منصة "رفينيتيف" (Refinitiv) أظهرت أن الجنيه المصري هبط بنحو 4% إلى 24 جنيها مقابل الدولار، مع استئناف التداول يوم الأحد بعد عطلة نهاية الأسبوع.
وتعد مصر -وفق وكالة "موديز" (Moody’s) للتصنيف الائتماني- واحدة من 5 دول مهددة بعدم القدرة على سداد أقساط ديونها الخارجية البالغة أكثر من 150 مليار دولار.
وفي أغسطس/آب الماضي، قال مصرف "غولدمان ساكس" إن مصر بحاجة إلى قرابة 15 مليار دولار لتتمكن من سداد ديونها.
اعتبر عضو شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية بالقاهرة أحمد شيحة أن الرابحين من إجراءات البنك المركزي المصري الأخيرة هم "السياحة، والصناعة، والمغتربون بالخارج، والمضاربون في الدولار، والخاسرون هم المواطنون الذين يتحملون نتائج التلاعب وارتفاع الأسعار، والدولة التي تحاول السيطرة على الأوضاع".
وسجلت تحويلات المصريين بالخارج، أحد أهم مصادر النقد الأجنبي، 31.9 مليار دولار مقابل 31.4 مليار دولار خلال السنة المالية 2020 /2021، وفقا لبيانات البنك المركزي المصري.
وأضاف شيحة، للجزيرة نت، أن الدولة متضررة لأنها مسؤولة عن توفير حياة مستقرة ومستوى تعليم وصحة للمواطن، وبالتالي تتحمل أي زيادة في تكلفة تلك الخدمات، وأي ارتفاع في الدولار يكلف خزانتها الكثير، ومن بين تلك الأضرار خفض قيمة أصول الدولة، مشيرا إلى أن المواطن هو من يتحمل أي زيادة في نهاية المطاف.
الرابحون أيضا، بحسب شيحة، هم المستثمرون الأجانب الذين يرغبون في دخول السوق المصري أو التوسع فيه، فضلا عن المصدرين بسبب انخفاض قيمة الجنيه ولكن في المقابل ارتفعت تكاليف مواد الإنتاج التي تأتي من الخارج.
وانتقد زيادة ظاهرة المضاربات على الدولار وتحوله إلى سلعة حتى بات لا يعبر عن قيمته الحقيقية، ولكن هناك إشارات مطمئنة هو استقرار الأوضاع في مصر وتوافر جميع أنواع السلع رغم الاضطرابات الخارجية، وهناك عبء حقيقي على الدولة يتمثل في خفض نتائج تداعيات تراجع الجنيه وهو السيطرة على التضخم.
ويعد خفض زيادة معدلات التضخم بسبب زيادة الأسعار أبرز تحد للحكومة المصرية بعد قرار التعويم، حيث من المتوقع أن يواصل الارتفاع من مستوى 15% في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو أعلى معدل للتضخم السنوي لأسعار المستهلكين في مدن مصر منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2018 عندما سجل 15.7%، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (رسمي).
ويستهدف البنك المركزي المصري معدل تضخم يتراوح بين 5 و9 نقاط مئوية لتخفيف الضغط على المواطنين، لكنه قال في أغسطس/آب إنه يتوقع ارتفاعًا مؤقتًا عن المعدل الذي يستهدفه خلال الشهور المقبلة، وتشير الأرقام الرسمية إلى أن نحو 30% من سكان مصر البالغ عددهم 104 ملايين فقراء.
وتأتي مصر في المرتبة الثالثة كأعلى دولة عربية بعد السودان واليمن يتوقع لها ارتفاع التضخم في عام 2023.
وتأمل الحكومة المصرية أن تساعدها إجراءات الخميس الصعبة على استعادة السيولة في الأسواق وزيادة التدفقات النقدية الأجنبية، وعودة ثقة المستثمرين في اقتصاد البلاد وحل أزمة نقص العملات الأجنبية، والتخلص من فاتورة دعم الجنيه ومساندته أمام الدولار.
من جهته، اتفق المستشار الاقتصادي وخبير أسواق المال الدكتور وائل النحاس، مع الرأي القائل إن "المضاربين هم الرابحون في المقام الأول مما يجري سواء الذين ضاربوا على الدولار أو السلع بأنواعها، والباقي هم الخاسرون سواء المواطن أو الدولة".
وأشار، في حديثه إلى الجزيرة نت، إلى أن العديد من الشركات الكبرى تكبدت خسائر ضخمة بسبب التعويم مثل شركة حديد عز التي أعلنت عن خسائر تتجاوز ملياري جنيه، وبالتالي سوف تعاني كل القطاعات في مصر من نتائج خفض الجنيه بما فيها السياحة؛ لأن تكلفة الليلة السياحية سوف ترتفع نتيجة زيادة تكلفة العمالة والخدمات وتذاكر الطيران.
وأكد النحاس أن تعويم هذا العام يختلف تماما عن التعويم الذي حدث في 2016؛ لأن كثيرا من دول العالم كانت تساند مصر وتدعمها ماليا لكن الآن العالم كله يمر بأزمات ومشاكل مختلفة وكل دولة لديها مشاكلها الخاصة، وكان من المفترض عدم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي إذا نجحنا في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي.
واعتبر النحاس الحديث عن سعر الدولار ليس الأهم، بل المهم هو السيطرة على التضخم؛ لأن الجنيه المصري هو عملة "مقومة" وليست عملة "تحويل"، وبالتالي فإن الدولار هو الذي يحدد قيمة الجنيه وأي ارتفاع أو انخفاض سينعكس على السلع بشكل مباشر حتى أن الصادرات أكثر من 70% من مكوناتها مستوردة، والواردات ضعف الصادرات تقريبا.
وفي محاولة لامتصاص آثار الصدمة الكبيرة لتعويم الجنيه، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، عن حزمة قرارات اجتماعية بتكلفة 67 مليار جنيه (نحو 2.7 مليار دولار)، شملت رفع الحد الأدنى للأجور، ومد فترة المساندة الاستثنائية لقطاع من الأسر عبر زيادة الدعم التمويني بقيمة 100 جنيه، وزيادة الإعفاءات الضريبية، ومساندة العمالة في القطاع الخاص في مواجهة أخطار التسريح، فضلا عن مد فترة وقف رفع أسعار الكهرباء.
وأوضح مدبولي أن الدولة قررت إقرار علاوة استثنائية لمواجهة غلاء المعيشة قدرها 300 جنيه (نحو 12.5 دولارًا)، يستفيد منها كل العاملين في الدولة والشركات التابعة لها وأصحاب المعاشات، وزيادة الحد الأدنى للأجور الشهرية بنسبة 11.1% من من 2700 جنيه (112 دولارًا) إلى 3 آلاف جنيه (124 دولارًا).