لأكثر من عام اكتسب الدولار الأمريكي قوة مقارنة بالعملات الأخرى بما في ذلك اليورو والين واليوان والدولار الكندي، حيث قفز بأكثر من 10% مقابل العملات الرئيسية الأخرى خلال 2022 ووصل إلى مستويات لم نشهدها منذ عام 2002، حيث دفع البنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى أعلى بوتيرة أسرع من البنوك المركزية الأخرى في جميع أنحاء العالم.
أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى زيادة الضغط على الدولار حيث يقوم المستثمرون الأجانب بضخ رؤوس الأموال في البلاد، كان أداء الدولار جيدًا أيضًا لأن الاقتصاد الأمريكي يُنظر إليه على أنه أقوى من الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من أزمة طاقة، في 22 أغسطس انخفض اليورو إلى أدنى مستوى له خلال عقدين عند 0.9903 مقابل الدولار.
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في يوليو أن الدولار حاليًا هو الأقوى منذ جيل مستشهدة بطلب الملاذ الآمن والتضخم وارتفاع أسعار الفائدة والمخاوف بشأن النمو كعوامل، لا يزال الدولار الأمريكي بالقرب من أعلى مستوياته في 20 عامًا، لكن تحول البنك الاحتياطي الفيدرالي بعيدًا عن سياسته العنيفة لرفع أسعار الفائدة سيعكس اتجاه الدولار، وفقًا لما قاله أحد كبار الاقتصاديين.
قد تؤدي حرب روسيا على أوكرانيا وتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان والمخاطر الجيوسياسية المتعلقة بإيران إلى تعزيز مكانة الدولار كملاذ آمن للمستثمرين.
في الوقت نفسه، يتزايد خطر حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة بشكل حاد، في حين أن التسعير الحالي للدولار يعتمد على التوقعات بأن البنك الاحتياطي الفيدرالي سيواصل رفع أسعار الفائدة وسط توسع الاقتصاد، كشفت البيانات الحكومية الأمريكية عن انكماش الاقتصاد الأمريكي للربع الثاني على التوالي وهو تعريف غير رسمي للركود الفني، إن الفكرة القائلة بأنه في ظل ظروف الركود هذه سيظل التضخم في خانة واحدة عالية وبالتالي سيضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى مواصلة دورة التضييق فكرة سخيفة للغاية.
بينما ارتفعت الأسهم في شهر أكتوبر على إثر تعليق رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي “جيروم باول” بأن التباطؤ في رفع أسعار الفائدة مرجح مع زيادة تشدد السياسة، حذر مراقبو البنوك المركزية في وول ستريت من أن السوق يخطئ في قراءة بنك الاحتياطي الفيدرالي، توقع البعض أته من غير المرجح أن ينخفض التضخم بالسرعة الكافية بحيث يمكن للبنك الاحتياطي أن يكون محوريًا، وقالوا إن تصريحات باول “ليست كلمات رئيس بنك الاحتياطي الذي يميل نحو موقف مسالم.
ليس هناك ما يشير إلى أن التضخم سوف يكون عنيدًا بما يكفي ليقتضي رفع أسعار الفائدة بشكل مكثف، إذا ضعف الاقتصاد والتضخم فسيتوقف الاحتياطي الفيدرالي عن سياسته وسيعكس الدولار اتجاهه، ولم يعد هذا خطرًا يمكن استبعاده.
يراقب المستثمرون سوق تجارة العملات وسوق السندات والذهب عن كثب عوائد سندات الخزانة الأمريكية ولا سيما العائد على السندات القياسية لمدة 10 سنوات، وذلك لأن العشر سنوات بمثابة وكيل للمنتجات المالية الأخرى مثل معدلات الرهن العقاري كما أنها تشير إلى ثقة المستثمر، فعندما يكون هناك ثقة منخفضة في الاقتصاد يريد الناس استثمارات آمنة وتعتبر سندات الخزانة الأمريكية من بين الأكثر أمانًا، الطلب على سندات الخزانة يرفع أسعارها وينخفض العائد، وعندما تعود الثقة يتخلص المستثمرون من سنداتهم معتقدين أنهم لا يحتاجون إلى اللعب بأمان، يؤدي هذا إلى انخفاض أسعار السندات وارتفاع العائدات.
لقد كانت سندات الخزانة رائجة وشائعة خلال أزمة فيروس كورونا حيث ارتفع الطلب عليها الذي دفع العائدات الاسمية إلى المنطقة السلبية مع ارتفاع أسعار السندات، ذكرت بلومبرج في 10 أكتوبر أن أكبر اللاعبين في سوق الخزانة الأمريكية (من بينها معاشات التقاعد وشركات التأمين والحكومات الأجنبية والبنوك التجارية الأمريكية) البالغ 23.2 تريليون دولار في تراجع، ثم هناك بالطبع الاحتياطي الفيدرالي الذي رفع من السرعة التي يخطط لها لبيع سندات الخزانة من ميزانيته العمومية إلى 60 مليار دولار شهريًا.
تلاحظ بلومبرج أن ارتفاع الدولار الأمريكي كان له تأثير سلبي على حيازات سندات الخزانة الأمريكية الأجنبية، على سبيل المثال اليابان: فمع استمرار الاحتياطي الفيدرالي في زيادة سعر الفائدة لترويض التضخم الذي تجاوز 8%، تدخلت الحكومة اليابانية في شهر سبتمبر من أجل دعم الين الياباني لأول مرة منذ عام 1998، بما أثار التكهنات بأنها قد تحتاج إلى البدء بشكل فعلي في بيع المخزون لديها من سندات الخزانة بهدف مزيد من الدعم للين.
لم تكن اليابان هي التي قامت بهذا فقط، بل بدأت العديد من دول العالم في خفض احتياطي العملات الأجنبية لديها من أجل المحافظة على عملاتها المحلية أمام الارتفاع المتزايد للدولار الأمريكي خلال الأشهر الأخيرة.
وقد أظهر صندوق النقد الدولي بيانات تشير إلى أن البنوك المركزية لدي الأسواق الناشئة خفضت من احتياطياتها الأجنبية بحوالي 300 مليار دولار خلال 2022، تقوم البنوك التجارية أيضًا بإنقاذ أذون الخزانة مع تبدد الطلب منها حيث يؤدي تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى استنزاف الاحتياطيات من النظام المالي.
نُقل عن محلل استراتيجي في بنك جي بي مورجان قوله إن البنوك خلال الربع الثاني اشترت أقل مبلغ من سندات الخزانة منذ الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020، وأشار إلى أن “الانخفاض في طلب البنوك كان مذهلاً”، “ومع تباطؤ نمو الودائع بشكل حاد أدى ذلك إلى انخفاض طلب البنوك على سندات الخزانة”.
حتى وزيرة الخزانة “جانيت يلين” قلقة بشأن نقص السيولة الكافية في سندات الخزانة، تلاحظ يلين أن المعروض من ديون الخزانة ارتفع بنحو 7 تريليونات دولار منذ نهاية عام 2019، لكن المؤسسات المالية الكبيرة لم تتقدم كمشترين، كما نُقل عن رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي السابق قوله إن الاحتياطي الفيدرالي لديه الآن تسهيلات إعادة شراء دائمة لتوفير سيولة داعمة لسوق سندات الخزانة.
يلاحظ أحد كبار الاقتصاديين أن رفع أسعار الفائدة هو وسيلة للبنوك المركزية لتقليل التضخم، لكن طباعة النقود لدفع تكاليف برامج الإغاثة تعني المزيد من العملات التي تطارد عددًا أقل من السلع والخدمات أي التضخم، ويتساءل: ولكن كيف ستمول الحكومة عجزا أكبر؟ إصدار المزيد من ديون الخزينة، مرة أخرى من سيشتري الدين؟ البنوك المركزية بقيادة البنك الاحتياطي الفيدرالي، سيضطر البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى التمحور عاجلاً وليس آجلاً، وبينما من المرجح أن يستمر الدولار في الارتفاع مقابل تراجع اليورو والين إلا أن أيامه معدودة أيضًا، قد يكون آخر من يسقط لكن عندما يحدث سيكون سقوطه وحشيًا، ببساطة يجب تمويل الإنفاق المالي بمزيد من إصدارات الديون واللاعبون الرئيسيون الوحيدون المتبقيون لشراء هذا الدين هم البنوك المركزية.
ذكرت مقالة نقلًا عن وكالة بلومبيرج أن ارتفاع أسعار الفائدة يثير مخاوف من أزمة ديون صندوق النقد الدولي في منتصف التسعينيات، وبحسب المقال فإن اقتصادات العالم النامي التي اقترضت بشدة بالدولار عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة وتواجه الآن زيادة هائلة في تكاليف إعادة التمويل.
في عام 1997 انهارت عدة عملات آسيوية وأجبرت على التخلف عن السداد، ارتفعت نسب الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 100% إلى 167% في اقتصادات دول آسيان الأربعة الكبرى في 1993-1996 ثم قفزت إلى ما بعد 180% خلال أسوأ فترات الأزمة، كانت تايلاند هي أول دولة تخلفت عن سداد ديونها ثم امتدت الأزمة إلى إندونيسيا وكوريا الجنوبية وكلاهما طلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي.
نتيجة لأزمة صندوق النقد الدولي تجنبت اقتصادات العالم النامي لبعض الوقت الديون الخارجية، ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية تم إغراء العديد من هذه الاقتصادات من خلال أسعار الفائدة المنخفضة لإصدار ديون بعملات صعبة عادة بالدولار أو اليورو، وفقًا لبيانات بلومبرج، في عام 2020 وصل الاقتراض بالدولار واليورو من قبل الحكومات الناشئة والمقترضين من الشركات إلى مستوى قياسي بلغ 747 مليار دولار، بلغاريا وتركيا من بين الدول التي لديها أكثر من نصف ديونها بالعملات الأجنبية.
سيكون لموجة التخلف عن السداد عبر الدول النامية تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي، تمامًا كما انتشرت عدوى الديون الآسيوية في عام 1997 إلى روسيا وأمريكا اللاتينية، وطالما أن الدولار عند مستوى مرتفع فإن هذا الخطر ينمو.
في غضون ذلك، انخفضت 15 عملة من أصل 23 عملة في الأسواق الناشئة تتبعها بلومبرج بأكثر من 10% هذا العام، مما زاد الضغط على الحكومات في وقت ترتفع فيه فواتير الطاقة أيضًا، تحتاج حكومات الدول النامية إلى سداد أو تجديد حوالي 350 مليار دولار من السندات المقومة بالدولار واليورو بحلول نهاية عام 2024، وفقًا للبيانات التي جمعتها بلومبرج.