تعجّ القارة الأوروبية بادعاءات تقول إن واشنطن تعمل على إطالة أمد الحرب في أوكرانيا لأنها المستفيد الأكبر من تبعاتها وآثارها السلبية التي خلفتها على اقتصاديات دول أوروبا الغربية، وتنادي على القادة الأوروبيين بالعمل على تبني إستراتيجية موحدة من أجل إيقاف هذه الحرب.
في الوقت ذاته، ترفض إدارة الرئيس جو بايدن هذه الادعاءات، وتذكر أن الكونغرس قد وافق قبل أيام على تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية جديدة بقيمة 44.9 مليار دولار، تضاف إلى 50 مليار دولار أرسلتها الولايات المتحدة بالفعل هذا العام لمساعدة أوكرانيا.
وترى دراسة لمركز الدراسات السياسة والإستراتيجية بواشنطن أن "شركاء واشنطن الأوروبيين يعانون أكثر بكثير نتيجة العواقب الاقتصادية لدعمهم لأوكرانيا وارتفاع تكاليف الطاقة العالمية مقارنة بالأميركيين. وبينما بلغ التضخم في الولايات المتحدة 7.7% في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فإنه وصل إلى 11.1% في المملكة المتحدة، و11.6% في ألمانيا، و14.3% في هولندا خلال نفس الشهر".
وقبل أسابيع، هاجم بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي إدارة الرئيس جو بايدن، واتهموها بجني ثروة من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتحدث مسؤول أوروبي رفيع لصحفة بوليتيكو وقال "في الوقت الذي تعاني فيه دول الاتحاد الأوروبي اقتصاديا على عدة أصعدة، تحقق الولايات المتحدة الكثير من الأرباح لأنها تبيع المزيد من الغاز وبأسعار أعلى، ولأنها تبيع المزيد من الأسلحة".
وجاءت هذه التعليقات في وقت شهدت فيه أوروبا غضبا متزايدا بسبب الدعم الحكومي الأميركي لبعض القطاعات، وهو ما يؤثر بالسلب على الصناعات الأوروبية.
ودعا مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل واشنطن إلى الاستجابة للمخاوف الأوروبية، وقال إن "أصدقاءنا الأميركيين يتخذون قرارات لها تأثير اقتصادي علينا".
كما أدى النزاع المتزايد حول قانون بايدن للحد من التضخم (IRA) -وهو حزمة ضخمة من التخفيضات الضريبة ودعم لبرامج الطاقة البديلة- إلى وضع المخاوف بشأن حرب تجارية عبر الأطلسي على رأس جدول القضايا عبر الأطلسي مرة أخرى.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن ارتفاع أسعار الغاز في الولايات المتحدة ليس "وديا"، ودعا وزير الاقتصاد الألماني واشنطن إلى إظهار المزيد من التضامن والمساعدة في خفض تكاليف الطاقة.
وبينما تحاول دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، فإنها تتحول إلى الغاز الأميركي، لكن السعر الذي يدفعه الأوروبيون هو ما يقرب من 4 أضعاف تكاليف الوقود نفسها في أميركا، ثم هناك الزيادة المحتملة في الطلبات على المعدات العسكرية الأميركية الصنع، حيث ينفد عتاد الجيوش الأوروبية بعد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.
وترفض واشنطن هذه الشكاوى مبررة أن ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا هو نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا، وحرب بوتين بسلاح الطاقة ضد أوروبا.
وشدد مسؤول أميركي على أن تحديد أسعار الغاز للمشترين الأوروبيين يعكس قرارات السوق الخاصة، وليس نتيجة لأي سياسة أو إجراء للحكومة الأميركية، وأضاف أنه في معظم الحالات لا يذهب الفرق بين أسعار التصدير والاستيراد إلى مصدّري الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة، لكن إلى الشركات التي تعيد بيع الغاز داخل الاتحاد الأوروبي، وأكبر مالك أوروبي لعقود الغاز الأميركية الطويلة الأجل هو توتال الفرنسية، على سبيل المثال.
من المحتمل أن تكون الآثار الاقتصادية القصيرة المدى للحرب محدودة بالنسبة للولايات المتحدة، لأن علاقاتها التجارية مع أوكرانيا وروسيا متواضعة، على الرغم من أن ارتفاع الأسعار العام بسبب الحرب يضغط على التضخم للأعلى.
ووصل التضخم في الولايات المتحدة إلى مستويات عالية بعد اتفاق حزمات الدعم المالي الضخمة في أعقاب الصدمة الاقتصادية وإغلاقات كوفيد-19، وأدت بداية الحرب إلى تفاقم المشكلة على مستوى العالم، مما دفع الاحتياطي الفدرالي إلى البدء في التشديد برفع أسعار الفائدة 5 مرات العام الجاري.
وطبقا لدراسة صدرت مؤخرا عن خدمة أبحاث الكونغرس، وهي الجهة البحثية التي تمدّ أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، لم يكن هناك أبدا علاقة اقتصادية كبيرة تجمع الولايات المتحدة بروسيا.
"ومع ذلك، قد يكون للعقوبات آثار كبيرة على شركات وقطاعات أميركية محددة تعمل مع روسيا. على سبيل المثال، قد تكون هناك مخاوف بشأن تعرض مؤسسات مالية أميركية لخسائر، وانخفاض القدرة التنافسية للشركات الأميركية. وتتركز المخاوف أيضا على ما إذا كان انخفاض إمدادات الطاقة الروسية يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز وتفاقم التضخم داخل الولايات المتحدة"، طبقا للدراسة.
كما يُظهر تقرير لبنك الاحتياطي الفدرالي في دالاس، أن "الحرب الروسية على أوكرانيا -والتي مثلت ضربة للاقتصاد العالمي مما أضعف التعافي من جائحة كوفيد-19، هي ما أدى إلى تفاقم التضخم المرتفع بالفعل. وفي هذا السياق، يواجه الاقتصاد الأميركي رياحا معاكسة كبيرة، من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والمواد الخام".
وقدّرت وحدة الأبحاث في مجلة "لإيكونوميست" (Economist) أن أهم تأثيرات الحرب الأوكرانية على الاقتصاد الأميركي هي على النحو الآتي:
إلا أن التراجع الاقتصادي الأميركي خلال 2022 عرف استثناء فيما يتعلق بقطاعي الطاقة والسلاح، فقد لجأت الدول الأوروبية إلى الولايات المتحدة للمساعدة في سد فجوات الطاقة، في الوقت الذي تبحث فيه عن موردين بديلين للنفط والغاز، في محاولة للحد من وارداتها من الطاقة الروسية. وعززت واشنطن الإنتاج المحلي، وأصبحت بالفعل مصدّرا كبيرا للطاقة (رابع أكبر مصدر للنفط الخام في العالم وثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي).
ويتوقع أن تظل الولايات المتحدة أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال في أوروبا عام 2023، ومن المرجح أن يولد هذا إيرادات أكبر للمصدرين الأميركيين بعد أن سجلت عام 2022 أرقاما قياسية، وبلغت عائدات بيع الغاز الأميركي لأوروبا إجمالي 35 مليار دولار حتى نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، مقارنة بـ8.3 مليارات دولار خلال نفس الفترة من عام 2021، وفقا لبيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA).
من ناحية أخرى، دفع انخفاض مخزونات السلاح في الدول الأوروبية لاضطرار الغربية منها إلى تقديم طلبات جديدة للحصول على سلاح أميركي، لتعويض ما تم تقديمه لأوكرانيا.
وبالفعل، ارتفعت سلة أسهم كبرى شركات إنتاج الأسلحة الأميركية خلال العام الحالي. ففي الوقت الذي انخفض فيه مؤشر "إس آند بي 500" (S&P 500) بنسبة 24% خلال 2022، حققت أسهم شركات منتجي السلاح مثل "نورثروب جرومان"، و"لوكهيد مارتن"، و"جنرال ديناميكس"، و"بوينغ إل 3 هاريس"، و"ليودوس" القابضة؛ زيادة بنسبة 5.8% خلال نفس الفترة.
كما عزز الدولار من قوته بسبب الحرب، إذ ابتعد الكثير من المستثمرين حول العالم عن أوروبا، واعتبروا أن الولايات المتحدة تعد ملاذا ماليا مضمونا لأن أوروبا وعملاتها لم تعد آمنة، وارتفعت قيمة الدولار على مدى العام أمام اليورو من دولار واحد مقابل 0.94 يورو في بداية العام، ليصل الدولار إلى 1.05 يورو في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن يستقر عند 0.94 هذا الأسبوع.