على مسامع مسؤولة ألمانية، أبدت الجزائر موقفها الرسمي "الرافض" لقرار وزراء الطاقة بالاتحاد الأوروبي تسقيف أسعار الغاز بالأسواق العالمية، محذرة من أن تكون الخطوة "أحادية الجانب" قنبلة جديدة تزيد في إشعال أسواق النفط الملتهبة بفعل ارتدادات الحرب في أوكرانيا.
في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن وزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب عدم دعم بلاده قرار المجموعة الأوروبية تسقيف أسعار الغاز الطبيعي في السوق الطاقية.
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع كاتبة الدولة البرلمانية والوزيرة المنتدبة بوزارة الاقتصاد وحماية المناخ الألمانية، فرانزيسكا برانتنر، قدم الوزير عرقاب جملة من الدوافع التي تقف وراء تحفظ الجزائر على خطوة الشريك الأوروبي، مؤكدا أن الجزائر لا تدعم فكرة تسقيف الأسعار مهما كانت الظروف.
وأشار إلى أن تسقيف الأسعار يؤثر مباشرة على الاستثمارات في المنبع، وطالب بإبقاء الأسواق حرة لمواصلة الاستثمارات والإنجازات في المنبع.
وشدد في تصريحه على أن أسواق الغاز المفتوحة والشفافة وغير المقيدة هي أكثر من مجرد ضرورة، مضيفا أن ذلك يعتمد تطوير الاستثمارات على أطر قانونية شفافة مدعومة بسياسات طاقية مالية وبيئية واضحة في البلدان المستهلكة للغاز وبلدان العبور.
وحمل تصريح عرقاب في طياته أيضا رسائل مشفرة للجانب الأوروبي -بحسب خبراء تحدثوا للجزيرة نت- عندما عاد إلى الاتفاقيات مع الشركاء الأوروبيين لتزويدهم بالطاقة وبالأخص الغاز الطبيعي، وشدد على أن الجزائر تبقى موردا موثوقا وآمنا وأنها على اتفاق تام مع شركائها الأوروبيين بالنسبة لأسعار طويلة المدى.
ولفت الوزير الجزائري إلى أن الاستثمارات الكبيرة في مجال الغاز الطبيعي على المديين المتوسط والبعيد تحتاج إلى رؤية واضحة، ولم يخفِ في المقابل مخاوف الجزائر من أن تتأثر صناعة النفط والغاز بالتغييرات التشريعية التي أدخلها الاتحاد الأوروبي، وخص بالذكر "الحياد المناخي بحلول 2050 واللوائح المتعلقة بالميثان، وكذلك إجراءات الاتحاد الأوروبي أحادية الجانب مثل تسقيف الأسعار، التي تزعزع استقرار السوق".
وجاء الموقف الجزائري ردا على القرار الذي اتخذه وزراء الطاقة بالاتحاد الأوروبي، في 18 من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي بوضع سقف لأسعار الغاز في حال تخطت أسعاره عتبة 180 يوروا للميغاوات/ساعة، وبرر الوزراء الخطوة بـ"مواجهة ارتفاع الأسعار على مستوى الأسواق"، على أن يبدأ تنفيذ القرار من 15 فبراير/شباط المقبل.
وفي المقابل، تجاهل البيان الأخير لمجلس الوزراء الجزائري قبل أيام خطوة الاتحاد الأوروبي لتسقيف أسعار الغاز، عندما دعا الرئيس عبد المجيد تبون وزيره للطاقة إلى الشروع في العمل على زيادة إنتاج الغاز بغرض المحافظة على معدل الاستهلاك الوطني من جهة، وتقوية التصدير من جهة أخرى تنفيذا لالتزامات الجزائر مع شركائها الأجانب.
فلماذا رفضت الجزائر القرار الأوروبي؟ وأي ارتدادات محتملة على اقتصاد البلد النفطي؟ وأي أوراق ضغط رابحة تملكها الحكومة الجزائرية لـ"تطويق" خطوة القارة العجوز بعد أن رفعت صادراتها الغازية لها في 2022؟
تساؤلات طرحتها الجزيرة نت على خبراء جزائريين أجمعوا على أن القرار الأوروبي "لن يكون قابلا للتنفيذ" لعدة اعتبارات قاهرة أبرزها:
وما يرجح الفرضية الثانية في تحليلات الخبراء للجزيرة نت، إعلان شركة سوناطراك النفطية الحكومية في الجزائر، مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن مفاوضات متقدمة مع 5 شركاء لمراجعة أسعار الغاز الطبيعي الجزائري، التي عدها عملاق النفط الجزائري بـ"المفاوضات المتقدمة جدا"، بينها إسبانيا وإيطاليا.
اعتبر الدكتور علاوة خلوط أستاذ الاقتصاد بجامعة باتنة شرقي الجزائر في حديث مع الجزيرة نت أن وضع سقف لأسعار الغاز هو اختراق لقانون السوق، في الوقت الذي يدعو فيه كل الأوروبيين إلى السوق الحرة
إلا أن الخبراء اعتبروا أن تصريح وزير الطاقة والمناجم يترجم أيضا مخاوف الجزائر من تأثر خططها الاستثمارية لمضاعفة إنتاجها من الغاز المُصدر ولزيادة حصتها في السوق الأوروبية التي تبحث عن منافذ تعوض الغاز الروسي، في الوقت الذي توفر فيه الجزائر 30% من احتياجات أوروبا من هذه السلعة الأساسية.
وفي 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، كشف الرئيس الجزائري خطط بلاده لعام 2023 لإنتاج 100 مليار متر مكعب من الغاز توجه فقط للتصدير، في الوقت الذي تستهلك فيه البلاد نصف إنتاجها الغازي البالغ 102 مليار متر مكعب.
واعتبر الدكتور علاوة خلوط أستاذ الاقتصاد بجامعة باتنة شرقي الجزائر في حديث مع الجزيرة نت أن وضع سقف لأسعار الغاز هو اختراق لقانون السوق، في الوقت الذي يدعو فيه كل الأوروبيين إلى السوق الحرة.
أما فيما يتعلق بالتأثيرات المحتملة للقرار الأوروبي على صادرات الجزائر من الغاز وعلى اقتصاد البلاد بشكل عام (المعتمد بنحو 96% على العائدات النفطية)، فقد اعتبر أن الجزائر غير معنية بالقرار الأوروبي، وأن التأثيرات المحتملة ستكون على السوق العالمية، ولفت إلى أن الاتحاد الأوروبي أمام معضلة عدم القدرة على تنفيذ هذا القرار.
وفيما يخص الجزائر، أوضح الدكتور خلوط أن البلاد لديها عقود مبرمة مع دول الاتحاد الأوروبي، في وقت اتفقت الجزائر وإيطاليا على التعامل وفق أسعار السوق الحالية، ويعتقد أن التأثير سيكون محدودا على الاقتصاد الجزائري على اعتبار أن السوق العالمية ما زالت بحاجة إلى ضخ المزيد من الغاز.
أما عن دوافع رفض الجزائر للقرار الأوروبي وإن كان يحمل مخاوف جزائرية من أن تشمل خطوة تسقيف الأسعار صادراتها الغازية نحو القارة العجوز، أكد الدكتور علاوة خلوط أن ذلك يعود إلى أن القرار الأوروبي لا يلتزم بقواعد السوق المرتبطة بالعرض والطلب، كما أن الأوروبيين بقرارهم يعرقلون سوق المحروقات، وهذا ما يؤدي إلى خفض الأسعار ويثير مخاوف الجزائر، باعتبار النفط المصدر الأساسي لمداخيلها.
في حين حدد الأستاذ جلول سلامة المهتم بشؤون الطاقة الجزائرية والدولية احتمالات تأثير القرار الأوروبي على الاقتصاد الجزائري في سيناريوهين اثنين.
وقال في حديث مع الجزيرة نت إن السيناريو الأول الذي اعتبره "الأسوأ"، عندما أشار إلى احتمال "وقف الجزائر بيع الغاز لأي دول أو جهة"، وتوقع في المقابل أن تتعامل الجزائر في حال هذا السيناريو مع الاتحاد الأوروبي "كدول وليس كتكل".
أما السيناريو الثاني الذي يضعه الخبير هو أن تلجأ الجزائر نحو تأسيس تكتل للغاز على غرار أوبك مع دول لها رؤية متقاربة مع الرؤية الجزائرية و"هي الاحتكام للسوق".
أما الخبير في شؤون الطاقة والنائب بالبرلمان الجزائري عبد القادر بريش فقد صنف قرار الأوروبيين تسقيف أسعار الغاز في خانة "القرار السياسي"، موضحا في تصريح للجزيرة نت أنه يؤثر على أساسيات سوق النفط التي تتحدد على ضوء العرض والطلب والتفاهمات التي تقوم بها مجموعة أوبك وأوبك بلس، وشدد في السياق على أن القرار الأوروبي سيكون مضرا للدول المنتجة بالدرجة الأولى.
وكشف أن الجزائر تدافع عن وجهة نظرها وعن مصالح المنتجين للنفط والغاز، وهو قرار أوروبي وغربي فُرض على روسيا.
واعتبر أن الموقف المعبر عنه من طرف وزير الطاقة الجزائري "هو الخشية من أن تقحم السياسة والتجاذبات السياسية الموجودة في ظل هذه التحولات وأن تصبح سابقة، بحيث يتم توظيف السياسة لضرب مصالح الدول المنتجة للبترول، وهذا ما يخل بالمبادئ التي يقوم عليها سوق الطاقة الدولي، وهي السوق التي تُنظم وفق آلية الاجتماعات الدورية لأوبك وأوبك بلس التي أثبتت نجاعتها لتضمن استقرار الأسواق ومصالح الطرفين، المنتجين والمستهلكين".
وفيما يتعلق بالأوراق التي تملكها الجزائر لمنع أي ارتدادات على اقتصادها من القرار الأوروبي، تحدث بريش عن عدد من أوراق الضغط التي تملكها الجزائر تتمثل بقربها جغرافيا من أوروبا، ولكونها تسهم في ضمان الأمن الطاقوي الأوروبي من خلال حصتها في السوق الأوروبية، ولكن يمكن مضاعفتها في الأعوام المقبلة، في وقت يؤكد الجانبان الجزائري والأوروبي أن الجزائر شريك موثوق لتأمين الطاقة للضفة الشمالية من المتوسط، ومثل هذه الأوراق تضغط بها الجزائر على شركائها الأوروبيين.
وأكد أن مسألة تسقيف الأسعار لا تخدم الجزائر في مسألة استثماراتها بقطاع الطاقة لزيادة قدراتها الإنتاجية والتصديرية نحو أوروبا.
كما لفت الخبير الطاقي إلى أن الجزائر عضو فاعل في منظمة أوبك ومجموعة أوبك بلس ومنظمة الدول المصدرة للغاز، معتبرا أن "كل هذه الأوراق تملكها الجزائر للضغط حتى لا تؤثر الإجراءات الأوروبية المتخذة ضد روسيا ويحصل التدخل في أساسيات السوق".
بينما يقول الخبير الاقتصادي الدكتور علاوة خلوط إن للجزائر ورقة قوية وهي بحث الأوروبيين عن ممول موثوق بشكل منتظم بالغاز في ظل الاضطراب الذي تعرفه السوق الدولية، وهذا ما يضع الجزائر دائما في وضع تفاوضي قوي مع أوروبا خصوصا أن الغاز الجزائري الذي يصل إلى إيطاليا يمتد إلى دول أوروبية أخرى.
وتحتل الجزائر المركز العاشر عالميا من بين أكثر المنتجين للغاز الطبيعي وتُؤَمِّن 11% من حاجيات أوروبا من الغاز، وباتت المورد الأول لبعض الدول الأوروبية في 2022 بينها إيطاليا وإسبانيا، فيما تأتي في المرتبة الثانية أفريقيًّا من حيث احتياطات الغاز، حيث يقدر احتياطي الجزائر من الغاز الطبيعي بنحو 4.5 تريليونات متر مكعب (25.3% من إجمالي احتياطي أفريقيا)، والمرتبة الثالثة في احتياطات النفط بالقارة السمراء التي تصل إلى 12 مليار برميل (9.6% من احتياطي أفريقيا) وفق آخر تقرير لـ"إدارة معلومات الطاقة" الأميركية الصادر مطلع الشهر الجاري.
من جهته، أضاف الأستاذ جلول سلامة أبعادا أخرى لأسباب الرفض الجزائري لقرار تسقيف الغاز من قبل الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بـ"المناقض للمعاهدات الدولية"، واعتبر أنه يترجم أن الجزائر باتت حازمة في اتخاذ القرار، وأن "السكوت على القرار يعني القبول به".
وشرح ذلك في حديث مع الجزيرة نت، بأن تسقيف أسعار المواد النفطية التي تعتبر عصب الاقتصاد الجزائري هو تقويض للدولة الجزائرية ككل، معتبرا أن أي تسامح مع أي طرف يعني تسليم جزء من مقاليد مقومات الاقتصاد الوطني لهذا الطرف.