لا شك أن عام 2022 كان حافلاً بالاضطرابات التي عصفت بالأسواق المالية بشكل عام وسوق الأسهم بصورة خاصة. فخلاله عمد الاحتياطي الفيدرالي ونظرائه من البنوك المركزية حول العالم لرفع معدلات الفائدة بهدف مواجهة التضخم وكبح جماح ارتفاع الأسعار الناتج عن أزمة سلاسل الإمدادات التي فرضها وباء كوفيد-19، وأزمة الطاقة التي أثارها الغزو الروسي على أوكرانيا.
سجّلت مؤشرات الأسهم الرئيسية في وول ستريت أسوأ أداء سنوي لها منذ الأزمة المالية عام 2008، حيث أنهى مؤشر ستاندرد آند بورز 500 عام 2022 متراجعاً بنسبة 19.4%، بينما تراجع مؤشر ناسداك بنسبة 33%، وانخفض مؤشر داو جونز بنسبة 8.7%.
في غضون ذلك، كان الدولار الأمريكي المستفيد الرئيسي من سياسة رفع الفائدة، وارتفاع معدلات التضخم بشكل استثنائي، وتراجع مستويات السيولة. وصحيح أن الدولار تراجع بحوالي 10% من أعلى مستوى كان قد سجّله في أواخر سبتمبر الماضي إلا أنه تمكن من أن ينهي العام على مكاسب تناهز 8%، ليحقق أفضل أداء سنوي له منذ عام 2015.
ومن ناحية أخرى، تصاعدت مخاوف الركود خلال الأشهر القليلة الماضية نتيجة حملات التشديد النقدي العنيفة وبقاء معدلات التضخم مرتفعة. ففي شهر أكتوبر، خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي لعام 2023، بسبب استمرار الضغوط الناتجة عن الحرب في أوكرانيا بالإضافة إلى ضغوط التضخم وسياسات رفع الفائدة التي اعتمدتها البنوك المركزية.
فقد صرّحت كريستالينا جورجيفا -العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي- أن عام 2023 سيكون حافلًا بالتحديات بالنسبة للاقتصاد العالمي خاصةً وأن المحركات الرئيسية للنمو العالمي -الولايات المتحدة وأوروبا والصين- كلها تعاني من ضعف في النشاط الاقتصادي. ولكنها أيضا أشارت إلى أن معدلات التضخم ستتراجع بشكل ملحوظ وبوتيرة سريعة خلال نهاية العام الحالي.
ماذا يعني هذا بالنسبة لمختلف فئات الأصول المالية؟ وكيف سيكون أداء أبرزها خلال عام 2023؟
ستشهد مختلف الأصول الماليّة تقلّبات سعريّة واسعة خلال عام 2023 ولن يسجّل معظمها اتجاهات مستدامة كالتي رأيناها خلال العامين الماضيين. ما يدعم هذه النظرة هو البيان الختامي لاجتماع الفيدرالي الأخير والذي أظهر حالة عدم اليقين التي تسيطر على الأعضاء الذين خفضوا توقعات النمو ورفعوا توقعات التضخم. هاتان النظرتان تتطلبان تبنّي مقاربتين مختلفتين في السياسة النقدية، كون ارتفاع التضخم يتطلب رفع معدلات الفائدة، بينما يتطلب تراجع النمو طرح برامج تحفيز وخفض الفائدة، إلا أن اللهجة التشددية التي التزم بها جيروم باول تؤكد أن الفيدرالي يفضل السيطرة على التضخم أولاً، ومن ثم الانتقال لمعالجة الركود.
يتطلب كبح التضخم الالتزام بسياسة متشددة والاستمرار برفع معدلات الفائدة وإن كان بوتيرة أبطأ من الوتيرة العدوانية التي اعتُمدت في العام الماضي. لذلك أتوقع استمرار عمليات رفع الفائدة إلى حين تكافؤها مع معدلات التضخم. عند هذه النقطة، من المرجح أن يُبقي الفيدرالي الفائدة عند المعدل النهائي الذي ستبلغه لعدة أشهر.
إن صح هذا التوقع، ستشهد أسواق الأسهم مزيداً من الضغوطات في النصف الأول من العام حتى أنها قد تهبط إلى مستويات لم تبلغها منذ مطلع أزمة كوفيد قبل أن تعاود الارتفاع فور انتهاء دورة التشديد النقدي. برأيي أن هذه التراجعات ستُشكل فرص شرائية استثنائية لمتداولي الأسهم. بالنسبة لمؤشر ناسداك المركب، المنطقة الواقعة بين مستويات 9600 و 9000 هي منطقة دعم مهمة جداً. أما بالنسبة لمؤشر ستاندرد أند بورز 500، فالمنطقة الواقعة بين 3400 و 3200 هي منطقة طلب قوية للغاية حيث أنها تمثل مستوى ارتداد فيبوناتشي 61.8% للاتجاه الصاعد الممتدّ من أدنى مستوى سجله المؤشر خلال عام 2020 إلى المرتفع القياسي الذي وصل إليه في يناير 2022. رغم أنني لا أتوقع أن تعود المؤشرات إلى مستوياتها القياسية قريباً، إلا أن مستويات الدعم هذه، إذا اختُبرت، سوف تُشكل فرص شرائية قد لا تتكرر في الأعوام العديدة القادمة.
رسم بياني لمؤشر إس آند بي 500
في سوق العملات، وبدءً من الدولار الأمريكي الذي يشهد ضغوطات بيعيّة منذ مطلع شهر أكتوبر الماضي، من غير المرجح أن تتعمق خسائره أكثر. أتوقع أن الأشهر الأولى من عام 2023 ستكون فترة إيجابية بالنسبة للدولار على أن يعاود الهبوط بعد بلوغ المعدل النهائي للفائدة في دورة التشديد الحاليّة.
بالانتقال إلى منطقة اليورو، أمضى اليورو عاماً مضطرباً، تعرض فيه لضغوط كبيرة دفعته للتراجع دون مستوى التكافؤ مع الدولار الأمريكي للمرة الأولى منذ عقدين، إلّا أنه استطاع التعافي خلال الأشهر الأخيرة بدعم من توجه المركزي الأميركي لإبطاء وتيرة رفع الفائدة. عانت عملة الاتحاد الأوروبي خلال عام 2022 من بُطأ المسار التشديدي الذي سلكه المركزي الأوروبي مقارنةً بذلك الذي سلكه نظيره الأمريكي، إلّا أن الواقع على الأرجح سينعكس في النصف الثاني من العام الحالي عندما يتوقف الاحتياطي الفيدرالي عن رفع الفائدة. حينها ستضيق فروق معدلات الفائدة لصالح اليورو. فنياً، بلغ اليورو حالياً منطقة مقاومة مهمة جداً، وهي مستوى ارتداد فيبوناتشي 61.8% للاتجاه الهابط الممتد من أعلى مستوى إلى أدنى مستوى سُجلا خلال العام 2022. وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن يشهد موجة تراجعات تصحيحية باتجاه منطقة 1.0430 وحتى منطقة 1.0200 قبل أن يعاود الارتفاع لاختبار 1.0750 – 1.0800.
رسم بياني لزوج اليورو دولار
كما أمضى الجنيه الإسترليني أسوأ عام له منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» في عام 2016، وصحيح أنه استطاع التعافي بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة عقب تسجيله أدنى مستوى له على الإطلاق مدفوعاً بتغييرات الحكومة التي تبعت ولاية ليز تراس الكارثية ومستفيداً من تراجعات الدولار، إلّا أنه أيضاً قد يشهد انطلاقة عام مضطربة وذلك بسبب السياسة الحذرة نسبياً التي بات يعتمدها بنك إنكلترا مقارنةً بباقي البنوك المركزية وسط الضعف الذي يعانيه الاقتصاد البريطاني وعجز الميزانية الكبير وارتفاع معدلات التضخم. لكنه هو الآخر سيستفيد من الضعف الذي سيشهده الدولار في النصف الثاني من عام 2023، وإن كان بوتيرة أقل من اليورو. فنياً، من المتوقع أن تكسر موجة التراجعات التي بدأت مؤخراً حاجز 1.1750 لتصل إلى منطقة 1.1400، قبل أن يعاود الباوند الارتفاع باتجاه مستويات 1.2450 و 1.2650.
من المرجح أن يكون عام 2023 عاماً جيداً بالنسبة للين الياباني. خلال الأشهر القادمة، من المتوقع أن يرفع بنك اليابان توقعاته لمعدلات التضخم ويعمد بالتالي لتعديل سياسته النقدية التوسعية، الأمر الذي سيقلص فروق معدلات الفائدة لصالح الين. سبب آخر داعم لارتفاع الين هو أن جميع العوامل التي ضغطت على العملة العام الماضي، مثل الاختلافات بالسياسات النقدية بين اليابان وباقي الدول وتدهور قطاع السياحة في البلاد وارتفاع أسعار الطاقة الذي أدى إلى فقدان اليابان للفائض التجاري الذي لطالما تمتعت به وأعطى الين خاصية الملاذ الآمن، كلها عوامل بدأت تتحسن. إضافةً إلى ذلك، تزايد المخاطر المحيطة بالنمو العالمي وارتفاع احتمالية حدوث ركود اقتصادي عميق يمكن أن تدفع الين لاستعادة خصائصه كأحد أهم أصول الملاذ الآمن. فنياً، هبوط الدولار دون مستوى 130.50 ين يمكن أن يمهد لمزيد من التراجعات باتجاه مستوى 127.00 ومن ثم 122.00 بنهاية العام إذا تفاقم الركود الاقتصادي.
وبما أنه لا يمكن الكلام عن أصول الملاذ الآمن دون التطرق للذهب، أتوقع أن يسجل الذهب مكاسب قوية هذا العام. عدة عوامل ستدعم ارتفاع أسعار الذهب وهي انتهاء دورة التشديد النقدي وبالتالي توقف معدلات الفائدة عن الارتفاع، الضعف النسبي الذي سيسجّله الدولار مقارنةً بأداء العام الماضي، كونه، حتى لو عاود الارتفاع لن يرتفع بنفس الوتيرة والقوة التي شهدها سابقاً، إضافةً إلى ارتفاع مخاطر الركود التي لا تستثني الولايات المتحدة ومن شأنها أن تدفع المستثمرين باتجاه الذهب كأصل مالي مفضل على الدولار المتضرر. عامل آخر قد يساعد الذهب على استعادة بريقه، هو فقدان المستثمرين ثقتهم بسوق العملات المشفرة بعد الاضطرابات الجدية التي يمر بها هذا القطاع. فقد اعتبر البعض هذه العملات بديلاً للذهب في الأعوام الماضية، لكن حالياً عادت الأصول التقليدية لتستحوذ على ثقة المستثمرين.
تبقى توجهات أسعار النفط خلال عام 2023 رهينة لعديد من العناصر المتضاربة، بمقدمتها استمرار الحرب الروسية وما قد يرافقها من انخفاض إضافي في الإنتاج النفطي الروسي هذا العام بسبب الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي في 5 ديسمبر الماضي، ودخول حظر المشتقات النفطية الروسية حيز التنفيذ، بدءً من 5 فبراير القادم. في الوقت نفسه المخاوف المتزايدة من موجة ركود واسعة تكتسح الاقتصادات الرئيسية تؤثر سلباً على أسعار النفط وقد أثارت موجة تراجعات واسعة مع مطلع العام الجديد. لكن على المقلب الآخر، قد يتعافى الطلب في وقت لاحق من العام لعدّة أسباب، في مقدّمتها إعادة فتح الصين أبوابها، وعودة أسواق آسيا الناشئة بما في ذلك الهند، مما قد يدفع نمو الطلب على النفط. فنياً تقترب أسعار نفط خام برنت من منطقة دعم قوية قرابة مستوى 72$ للبرميل، قد تكون بمثابة نقطة محورية تطلق عملية التعافي باتجاه منطقة 94$ ومن ثم منطقة 100$ للبرميل في حال كان الركود ضعيفاً ولم يدم لفترة طويلة.