كثيرة هي الأسباب والدوافع المريرة التي أجبرت الآلاف من العمال والخريجين إلى التزاحم أمام مقرات الغرفة التجارية في قطاع غزة، أملاً باستصدار تصاريح خاصة للعمل في (إسرائيل) داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفقاً لوجهة نظر المعنيين في قطاع العمال والمحللين الاقتصاديين.
ومن جهة ثانية، يسوق آخرون من الساسة والمحللين الأمنين، ما يعتبرونها محاذير وتخوفات أمنية، من تبعات دخول آلاف العمال الفلسطينيين، عبر معبر بيت حانون (إيرز) للأراضي المحتلة والعودة بالعكس بشكل يومي إلى قطاع غزة.
ويأتي هذا الإقبال من سكان قطاع غزة، للعمل لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي لمجرد سماعهم أنباء-غير مؤكدة- عن سماح الأخيرة بإصدار 2400 تصريح للفلسطينيين من سكان القطاع، الأمر الذي تكشف فيما بعد بأن المقصود هم فئة التجار فقط، وفقاً لإعلان الشئون المدنية ذلك لاحقاً.
يذكر أن دولة الاحتلال الإسرائيلي أصدرت خلال سبتمبر من العام الجاري نحو ١٠٠٠ تصريح للتجار من قطاع غزة، وذلك ضمن ما زعمته من تسهيلات مقابل التهدئة.
إحصائيات وأرقام
ووفقاً للنتائج الأساسية لمسح القوى العاملة للربع الأول 2021 الذي أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن هناك ارتفاعا في عدد العاملين في (إسرائيل) بحوالي 8 آلاف عامل بين الربعين الأول والثاني للعام 2021.
وارتفع عدد العاملين في (إسرائيل) من حوالي 138 ألف عامل في الربع الأول 2021 إلى حوالي 146 ألف عامل في الريع الثاني 2021، حيث كان الارتفاع الأكبر في عدد العاملين في نشاط البناء والتشييد بحوالي 11 ألف عامل يليه نشاط التجارة والمطاعم والفنادق بحوالي 3 آلاف.
كما انخفض عدد العاملين في المستعمرات الإسرائيلية من 21 ألف عامل في الربع الأول من عام 2021 الى 19 ألف عامل في الربع الثاني من العام ذاته.
يذكر أن الإحصائية سالفة الذكر تخص الضفة الغربية فقط، حيث لم تشمل تصاريح العمل سكان قطاع غزة، والذي يعيش فيه ما يزيد عن مليوني شخص تحت حصار إسرائيلي مشدد منذ أكثر من 15عاماً.
دوافع مريرة
وأجبرت قسوة الحياة والفقر والبطالة التي يعانيها العمال في قطاع غزة، آلاف العمال والخريجين، الاندفاع إلى مقرات الغرفة التجارية في محافظات القطاع، من أجل السبق في تسجيل أسمائهم ضمن الـ2400 عامل المسموح لهم بالحصول على تصاريح للعمل في (إسرائيل).
وما هي إلا ساعات، حتى تبخرت آمالهم بالحصول على هذه الفرصة النادرة، لدى معرفتهم بأن التصاريح لا تشملهم وإنما تخص فئة التجار فقط، الأمر الذي أصابهم بالحسرة والألم على ضياع بصيص الأمل الذي انتظروه لسنوات.
ولم يستطع العامل الأربعيني خليل سرداح، حبس دموعه التي سالت على خديه أثناء تواجد "زوايا" أمام مقر الغرفة التجارية في مدينة غزة، فقد أبدى حسرته وغضبه في آن واحد قائلاً "إرضينا بالهم والهم ما رضي فينا"، وذلك تعبيراً عن صدمته من عدم شمول العمال في التصاريح المعلنة.
وعبر عن غضبه لحالة التضليل والخداع التي تعرض لها العمال، مشيراً إلى أن حاله حال الكثيرين من العمال الذين اصطفوا أمام مقار الغرفة التجارية في محافظات القطاع، وفي النهاية النتيجة "صفر كبير"، على حد تعبيره.
وعلى مقربة من العامل سرداح، كان يقف الشابان محمد المدهون وعلاء (س)، ويلبسان هنداماً جميلاً ويحملان أوراقاً بيضاء، كان للتو أحدهما قد مزق بعضها، ولدى سؤال المدهون عن سبب الفعل الأخير لرفيقه علاء، تبين أنهما خريجان جامعيان لم يحالفهما الحظ في التحصل على الوظيفة بعد تخرجهما منذ سنوات، فاتجها للبحث عن أي فرصة عمل حتى لو عمال.
وقال المدهون "نحن للأسف خريجون وعمال وغيرنا الكثير من فئات المجتمع ضحايا(..) والدي طفح الدم أربع سنين حتى يعلمني والنتيجة عاطل عن العمل، والحين جاي أنا وإياه نسجل للشغل في إسرائيل"، مضيفاً "لا حكومة غزة حاسة فينا ولا حكومة الضفة مدورة علينا".
وأثنى العامل الخمسيني جبر السلطان على حديث من سبقه بالقول "فعلاً ولا حد سائل فينا يا ابني، لا فتح ولا حماس ولا حتى القرود"، لافتاً إلى أنه لديه من الشباب والبنات خريجين وعزابية "لا عارف يشغلهم ولا يجوزهم ولا يسفرهم"، كما قال.
ووسط هذه السخط والمشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام من أمام مقرات الغرفة التجارية، اعتبر سامي العمصي نقيب العاملين في قطاع غزة، أن ما أعلنت عنه الغرفة التجارية "تلاعب بالعامل الفلسطيني ويجب أن يحاسب من أصدر الإعلان".
وأوضح العمصي في حديث لـ"زوايا" أن الاحتلال لا يسمح لهذه اللحظة بدخول أي عامل للعمل داخل الخط الأخضر بمسمى عامل، مشدداً على ضرورة ووجوب محاسبة من تلاعب بالعامل واستغل مأساته، وكنقابات عمال لن نتركه وسنلاحقه قانوناً.
وأشار إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين تصريح العامل والتاجر، فالأول عندما يعمل داخل المدن المحتلة فإن الاحتلال ملزم بأي إصابة عمل وجميع حقوق العمل، لافتاً إلى أن دخول العامل بتصريح تاجر، فإن الاحتلال يعفي نفسه ونقابة العمال الإسرائيلية من أي التزام تجاه العامل.
ويرى العمصي بأن ما حدث "متاجرة بمأساة العامل"، منوهاً إلى أن ٢٥٠ ألف صورة هوية قدمت خلال اليوم الأول لتدافع المواطنين أمام الغرف التجارية، وهذا يعكس المأساة والمتاجرة في معاناة العامل.
وطالب الجهات المعنية في غزة بأن تحاسب حسابا شديدا كل من روج للقرار، حيث لا يمكن تبرئة أحد مما جرى، وكان يفترض على الغرفة التجارية الخروج مبكراً للتوضيح وليس بعد تلقي طلبات العمال.
وعبر العمصي عن أسفه من أن السلطة في رام الله لم تقدم أي شيء للعامل الفلسطيني في غزة باستثناء بعض المساعدات التي لا تذكر، ووكالة الغوث أيضاً جمدت عددا من مشاريعها المقدمة للعمال.
وأكد أن السلطة مارست تمييزا وتفرقة تجاه العامل في غزة، وصرفت ٣٥ ألف مساعدة لعمال الضفة من صندوق "وقفة عز"، فيما تجاهلت غزة وصرفت ٥ آلاف مساعدة فقط، لافتاً إلى أن السلطة قدمت من منحة البنك الدولي ٦ آلاف لغزة مقابل ٦٠ ألف عامل في الضفة.
من جهته، صرح محمد طبيل مدير عام التشغيل المؤقت بوزارة العمل في غزة، أنه لم يتم التنسيق مع وزارة العمل بخصوص وجود موافقة من الاحتلال لاصدار تصاريح عمال، وما تم الإعلان عنه هو تصاريح للتجار.
وحمل طبيل في حديثه لـ"زوايا" الاحتلال كافة المسؤوليات القانونية تجاه العمال، عاداً استقبال الغرفة التجارية في القطاع للأعداد الكبيرة والهائلة من العمال، هي مسئولية يتحملها الاحتلال نتيجة الحصار الظالم على شعبنا، مشيراً إلى وجوب وضع حلول للحد من البطالة وتشغيل العمال وإيجاد فرص عمل مناسبه لهم.
واعتبر أن الانقسام الفلسطيني وتهميش قطاع غزه من خطط التنمية أحد أسباب تفاقم نسب البطالة، مطالباً المؤسسات الدولية بالتدخل العاجل لرفع الحصار الظالم عن أهلنا وشعبنا في قطاع غزه.
ونوه طبيل إلى أن لدى وزارة العمل نظام معلومات حول القوى العاملة وهي على استعداد للتعاون مع الجهات المختصة فيما يتعلق بالعمال حسب قانون العمل الفلسطيني.
العائد الاقتصادي
ومن الناحية الاقتصادية، فقد أرجع مصطفى رضوان الكاتب والمحلل في الشأن الاقتصادي في بداية حديثه، الإقبال الكبير على استصدار التصاريح للعمل في (إسرائيل) إلى حجم المعاناة التي يعانيها العمال الفلسطينيين في قطاع غزة والتي تتجلي في الصورة الرقمية، مشيراً إلى تعطل الاقتصاد الغزي بشكل كبير، وما خلفه من فقر بلغت نسبته أكثر من 80%، وبطالة تزيد عن 55%، وما يترتب على كل ذلك من تعطل 250 ألف عامل.
وتساءل رضوان في مداخلته لـ"زوايا" أنه في ظل هذه الأرقام الكبيرة من الفقر والبطالة.. ماذا نتوقع من العامل الفلسطيني حين يسمع عن فرصة عمل تغيثه لكسب لقمة عيشه؟، متوقعاً أن تكون محاولة تصنيف الاحتلال بين التاجر والعامل، بهدف الابتزاز للتنصل من أي التزامات وتأمينات واستحقاقات يمكن أن يتحصل عليها العامل في المستقبل ولا تتوفر للتاجر.
وركز رضوان على الأثر الاقتصادي في حال تحقق تشغيل 2400 عامل من قطاع غزة في (إسرائيل)، مبيناً أن متوسط الأجر اليومي للعامل في الداخل المحتل 80 دولار، بما يعادل أجر 1600 دولار يتحصل عليها الفرد الواحد خلال شهر، بما يعني أن ذلك سيعود على الاقتصاد الغزي بما قيمته 4 مليون دولار شهرياً.
ونوه إلى فرضية الزيادة في عدد العمال إلى 6000 عامل، فإن ذلك سيضاعف من العائد سالف الذكر حتى يصل 10 مليون دولار، أي بما يوازي المنحة القطرية المقدمة شهرياً لغزة بقيمة 10 مليون دولار وتستهدف 100 ألف عامل.
ويرى رضوان أنه يجب التشجيع على تصدير الأيدي العاملة سواء إلى الداخل المحتل أو الدول العربية الشقيقة، لأن ذلك من شأنه أن يخفف من حدة الفقد والبطالة ويعود بالنفع على كافة الصُعد سواء الأسري أو المجتمعي والاقتصاد بشكل عام في قطاع غزة.
محاذير أمنية
وعن المحاذير الأمنية لدخول آلاف العمال من غزة لـ(إسرائيل) والعودة اليومية بالعكس؟، فقد اعتبر الكاتب والمحلل السياسي عبد الله العقاد، أن العمل في الداخل المحتل كان مطلباً فلسطينياً لمواجهة الواقع الذي يفرضه الاحتلال بوجوده كسلطة قهرية قائمة بالقوة الجبرية، وهي ملزمة بتوفير كل الشؤون الحياتية وفق معاهدة جنيف الرابعة.
وذكر العقاد لـ"زوايا" أن التخوفات الأمنية، مشروعة في كل الأحوال، ولكن ثقتنا بأبناء شعبنا كبيرة في مواجهة كل أشكال الابتزاز، مشيراً إلى أن العمل في الداخل المحتل ليس جديداً، بل إن جيل الانتفاضة الأولى هو ذاته الجيل الذي كان يعمل في الداخل المحتل.
وأضاف "الفلسطيني الذي يعيش داخل هذا الكيان هو ذاته الذي وجدناه في معركة سيف القدس يثور بقوة في وجه سلطات الاحتلال، حيث لم ينقطع الفلسطينيون في الضفة من العمل هناك"، على حد تعبيره.
أما مهدي حسنين الباحث في شؤون الأمن، فيرى –هو الآخر- أن هناك الكثير من المحاذير من دخول العمال من قطاع غزة إلى الداخل المحتل، مشيراً إلى أن أولى هذه المحاذير هو الاحتكاك المباشر بالمحتل وتحطيم الحاجز النفسي بين المواطن الغزي وعدوه الذي يحتل أرضه ويقتل البشر ويهدم الحجر ويقتلع الشجر.
واعتبر أن المجتمع الصهيوني مجتمع مؤطر عسكرياً من خلال خدمته في الجيش، حيث أن انخراط العمال الفلسطينيين بشكل مباشر مع هذا المجتمع الصهيوني قد يعرضهم للخطر، لافتاً إلى أن المجتمع الفلسطيني متدين بفطرته.
ويرى حسنين أن معبر بيت حانون (إيرز) هو حاجز أمني بامتياز يسيطر عليه جهاز الشاباك الصهيوني بنسبة 90%، حيث يقوم بإخضاع المواطنين الفلسطينيين للمقابلات والتحقيق إما بشكل منظم أو مفاجئ، عاداً أن هناك فرصة كبيرة للشاباك أن ينتقي من يشاء من هؤلاء العمال وخاصة من الشباب ليبتزهم ويسقطهم في وحل العمالة.
ومن وجهة نظر أخرى، يرى عبد الرحمن يونس الكاتب الصحفي في صحيفة "فلسطين" الصادرة في غزة والمقربة من حركة حماس، أن الأعداد الغفيرة التي تقدمت لطلب تصاريح للعمل داخل الأراضي المحتلة "تنم عن كمية الفقر الذي يعيشه سكان قطاع غزة".
وأضاف "لكن يجب أن تكون هناك وقفة فيما إذا سمح بإدخال العمال (..) مع اعتقادي أن هذه لعبة من الاحتلال للعب على الوتر الحساس، ولن يسمح بإدخال أحد، وأن الهدف منها إحداث بلبلة في الشارع الغزي".
وتساءل يونس في حديثه لـ"زوايا" "لنا أن تخيل أن الاحتلال وافق على منح تصاريح لإدخال الآلاف من سكان قطاع غزة، وحدثت مواجهة مع المقاومة، هؤلاء العمال الذين سمح لهم بالعمل في الداخل، ماذا سيكون موقفهم؟ ومع من سيصطفون؟.
وأردف يونس متسائلاً " فوق ذلك، لنا أن نتخيل أن المواجهة حدثت والعمال لا يزالون في الداخل وأغلقت المعابر، ماذا سيكون مصيرهم؟ والأخطر من ذلك، ماذا لو استغل الاحتلال حاجة الناس وجندهم للعمالة؟".
وتابع "إذا وافق المسؤولون في غزة على إدخال السكان بهذه الأعداد، فهم أمام خطر استراتيجي كبير، وإذا لم يوافقوا فهم أمام غضب شعبي ليس بالقليل!.. الوضع ليس سهلا"، على حسب تعبيره.
وتأتي هرولة عمال قطاع غزة للعمل داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي، في ظل تهميش المسؤولين في رام الله وغزة لمعاناتهم المتعاقبة عبر السنوات، دون بذل جهد حقيقي للتخفيف عنهم، ويجد العامل المنهك بأعباء الحياة المختلفة نفسه واقفا وحيدا في مواجهة اصطفاف الانقسام الفلسطيني والاحتلال والحصار ضده.
وتفاقمت هذه المعاناة مع تأخر السلطة برام الله في صرف مخصصات الشؤون الاجتماعية (مبلغ يتراوح بين 750 شيقلًا و1800 شيقل، حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسرة، يصرف مرة واحدة كل ثلاثة أشهر، تم صرفه مرة واحدة خلال عام 2021)، والتي يعتاش عليها معظم عمال غزة.
في حين لم تبادر حكومة حماس بغزة لتخفف من حدة المعاناة التي يمر بها عمال القطاع، مع زيادة ضائقتها المالية بعد تأخير سماح الاحتلال الإسرائيلي صرف المنحة القطرية (100 دولار يستفيد منها 100 ألف أسرة شهريا، لم تصرف بعد العدوان على غزة في مايو الماضي إلا مرة واحدة).