منذ 2008 تراكم الدين العام للحكومات، فقد بلغ 125% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، في حين تجاوز حاجز 100% هذا الصيف في منطقة اليورو.
وفي تقريرهما الذي نشرته صحيفة "لاتريبيون" (latribune) الفرنسية، قال إريك منغوس (أستاذ في الاقتصاد وعلوم القرار بجامعة الدراسات العليا لإدارة الأعمال في باريس) وجيوم بلانتين (باحث وعميد معهد الدراسات السياسية بباريس) إن التخفيض في أسعار الفائدة أسهم في إعادة تمويل الدين العام، في حين بررت نسبة التضخم المتدنية عمليات الدعم النقدي التي تقوم بها البنوك المركزية.
يشعر بعض المراقبين وعلى رأسهم الخبير الاقتصادي في جامعة شيكاغو جون كوكرين، ووزير الخزانة السابق في عهد بيل كلينتون والمستشار الاقتصادي السابق لباراك أوباما لاري سامرز، بالقلق إزاء قدرة البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة أو خفض احتياطاتها عند الضرورة لتحقيق هدفها المتمثل في استقرار الأسعار.
وبالنظر إلى حجم الديون في الوقت الحالي، تستطيع الحكومات الاستفادة من سياسة نقدية تيسيرية قد تؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم، ومن شأن ارتفاع الأسعار أن يقلص القيمة الحقيقية للديون الحكومية ومن ثم يخفف من عبئها، وهو ما سيعرقل أي تضييق تنوي البنوك المركزية القيام به.
وتسلط هذه المخاوف الضوء على خطر التحول من "الهيمنة النقدية"، التي تعني أن البنك المركزي لن يواجه عقبات مالية تحول دون تحقيق هدفه المتمثل في تحقيق استقرار الأسعار، إلى "هيمنة الميزانية" التي تحيل إلى أن هدف السياسة النقدية سيكون التعامل مع التضخم في المقام الأول لضمان قدرة الهيئة الضريبية على سداد الديون.
ومع التحول إلى هيمنة الميزانية، فإن معدل التضخم المسجل حاليا الذي يُعدّ مرحلة عابرة قد يصبح ثابتا في المستقبل، ومن ثم سيكون الحد منه صعبا، وفي الحقيقة يعد التهديد الذي ينطوي على "هيمنة الميزانية" موضوعا مثيرا للانقسامات، خاصة بين صفوف حكومات الاتحاد الأوروبي.
ذكر الكاتبان أن الرفع في أسعار الفائدة نتيجة تشديد البنك المركزي سياسته النقدية يمكن أن يزيد عبء ديون الحكومة التي سيتعين عليها بناء على ذلك ضبط الأوضاع المالية إما عن طريق زيادة الضرائب أو التقليص من الإنفاق الحكومي، وبالنظر إلى حجم الديون الذي يثقل كاهلها قد لا تحاول الحكومات الحد من العجز في الميزانية، أو قد تلجأ بدلا من ذلك إلى زيادة مديونيتها أملا في إجبار البنك المركزي على التراجع عن سياسته النقدية المتشددة.
في بحثهما الأخير، حلّل الكاتبان الحوافز التي يمكن أن تدفع الحكومة إلى الضغط من أجل فرض هيمنة الميزانية أو الامتثال للهيمنة النقدية.
في الحالة الأولى، أطلق الخبير الاقتصادي الأميركي نيل والاس في عمل مشترك مع توماس سارجنت الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2011، على المناورة القائمة بين الحكومة والبنك المركزي اسم "لعبة الدجاجة المبللة"، وتقوم هذه اللعبة على قيادة سائقين سيارتيهما في اتجاه بعضهما بعضا، والخاسر هو الذي ينحرف أولا عن مساره لتجنب الاصطدام.
وعلى هذا النحو، تواصل الحكومة تسجيل عجز في الميزانية في حين يحافظ البنك المركزي على سياسته النقدية التقييدية إلى حين إيجاد حل لتجاوز هذا الفخ الاقتصادي، يكون إما عن طريق ضبط الحكومة الأوضاع المالية أو سماح البنك المركزي بارتفاع معدل التضخم.
أظهر البحث أن هيمنة الميزانية تعني أن الحكومة ستلجأ إلى استنزاف قدرتها الضريبية، والتخلف عن سداد ديونها في ظل غياب هوامش التمويل، إما بسبب عدم خفض الإنفاق أو عدم فرض ضرائب إضافية، والسؤال المطروح: ما الذي يؤدي إلى تدهور الكفاءة الضريبية للحكومة؟
تؤدي الصدمات الاقتصادية مثل الركود أو الأزمات إلى تراجع الإيرادات الضريبية، أو زيادة الإنفاق العام لدعم الاقتصاد، وقد أظهر البحث أنه يمكن لهيئة الإيرادات استنفاد قدرتها الضريبية عمدا، فبدلا من توحيد الجهود قد تقرر الحكومة تسجيل عجز كبير وإغراق سوق السندات المالية، وزيادة حجم الدين يمكن أن يجبر البنك المركزي في نهاية المطاف على السماح بارتفاع نسبة التضخم في المستقبل لتقليص عبء الدين والحيلولة دون التخلف عن سداد الديون السيادية.
في هذه الحالة، هل سيكون البنك المركزي قادرًا على ترجيح كفة "الهيمنة النقدية" أو تقليل التكلفة التضخمية التي تفرضها الهيمنة المالية؟
من المفارقات أن البنك المركزي قد يستفيد من الانخراط في ما يسمى بـ"التضخم الوقائي"، ومن خلال زيادة معدلات التضخم الحالية يمكن للبنك المركزي أن يقلل من القيمة الحقيقية للالتزامات السابقة، ويعزز قدرة الحكومة على سداد الديون.
وفي الوقت الحالي أمام البنوك المركزية خياران: إما السماح لمعدل التضخم بالارتفاع قليلا أو مواصلة اتباع سياسة نقدية متشددة، الأمر الذي قد يجبر الحكومات على اتخاذ تدابير قاسية.