أسفرت قمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين أمس الجمعة في مدينة سوتشي الروسية، عن توصل الطرفين إلى اتفاق يقضي بدفع أنقرة جزءًا من ثمن الغاز الطبيعي لموسكو بالعملة الروسية المحلية الروبل، وهو ما اعتبرته بعض الدول الغربية تحديا للعقوبات الصارمة المفروضة على موسكو.
الاتفاق التركي الروسي الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى إنهاء هيمنة الدولار واليورو على التعاملات التجارية بين البلدين ودعم العملتين المحليتين، بحسب خبراء، يأتي في فترة تواجه فيها روسيا عقوبات غربية تستهدف اقتصادها ومصارفها وعملتها بالدرجة الأولى.
وبعد قمة أردوغان وبوتين، قال ألكسندر نوفاك نائب رئيس الوزراء الروسي "إننا نتحدث حول التحول إلى العملات الوطنية بشكل تدريجي، وفي المرحلة الأولى سيتم دفع جزء من التوريدات بالروبل الروسي".
ويقول الخبير التركي في شؤون الطاقة والخدمات اللوجستية فاتح طاغري قولو، إن تركيا وروسيا تسعيان منذ سنوات للتخلص من هيمنة الدولار واليورو على تعاملاتهما التجارية، وترغبان في جعل العملتين المحليتين عنصرا رئيسيا في المبادلات التجارية القائمة بين القطاعين العام والخاص لدى الطرفين.
وأضاف طاغري قولو -في تصريح للجزيرة نت- أن تركيا منذ أكثر من عام تعاني من نقص في مخزون العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، وأن هذه الخطوة قد تساهم في تخفيف العجز الحاصل في مخزونها ولو بشكل بسيط.
وأشار إلى أنّ أهم النتائج الإيجابية لدفع ثمن الغاز المستورد من روسيا بالروبل، ستكون زيادة صادرات المنتجات والسلع التركية إلى الأسواق الروسية، بغية تحصيل أكبر قدر ممكن من العملة الروسية.
وتابع أن "تركيا أمامها فرصة كبيرة لزيادة صادراتها إلى روسيا، ولا سيما أن الأخيرة تعاني من عقوبات أوروبية وغربية، ودفع ثمن الغاز بالروبل من شأنه تمهيد الطريق أمام توسيع نطاق التعامل بالعملتين المحليتين في تجارة السلع والمنتجات الأخرى. وفكرة اعتماد العملة المحلية في عمليات التبادل التجاري بين روسيا وتركيا، من شأنها أن تفتح آفاقا جديدة في العديد من المجالات، كزيادة حجم التبادل التجاري وتعزيز السياحة".
ويرى أن تركيا تعوّل على السياح الروس في تأمين الروبل، في حين أن الرئيس أردوغان صرّح خلال عودته من سوتشي بأن بلاده سمحت لنظام الدفع الروسي "مير" بالدخول إلى بعض المصارف التركية، بهدف تعزيز التحويلات والتدفقات المالية بين البلدين، وأن هناك دراسات لتعميم هذا النظام على كافة المصارف الحكومية والخاصة.
واعتبر أن من إيجابيات دفع جزء من ثمن الغاز الروسي بالروبل، أنه سيمهد الطريق لتوقيع اتفاقية مقايضة العملات (سواب) بين تركيا وروسيا وبمبالغ كبيرة خلال الفترة القادمة، ولا سيما أن هدفًا مشتركًا يجمع البلدين وهو التخلص من هيمنة الدولار واليورو.
من جانبه، أعرب المحلل الاقتصادي أوغوز دمير -في مقابلة تلفزيونية- عن اعتقاده أنّ روسيا وتركيا ستواجهان صعوبات في الانتقال من الدولار إلى العملتين المحليتين في التبادل التجاري، مبينا أنَّ الدولار الأميركي "ما زال العملة الأقوى في العالم".
وأضاف أن روسيا ستستفيد من هذه الخطوة أكثر من تركيا بكثير، كونها تبحث عن مخرج أو مهرب من العقوبات الغربية وتحاول الحفاظ على قوة عملتها المحلية ومكانتها في الأسواق الخارجية، مشيرا في هذا السياق إلى احتمال تعرّض البنوك التركية لعقوبات مماثلة بداعي خرقها لحزم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.
وحذّر دمير من مخاطر ارتباط تركيا بشكل كبير بالروبل، مبينا أن على حكومة بلاده تحقيق توازن في المدفوعات بالعملتين المحليتين كي لا يصبح الروبل في المستقبل عملة أجنبية رئيسية في البلاد.
وأردف قائلا "علينا تحقيق توازن في المدفوعات بالعملتين المحليتين، ويبدو من الصعب تحقيق ذلك لأن الفجوة بين الواردات والصادرات مع روسيا كبيرة جدا، إذ إن صادراتنا إلى هذا البلد بلغت 6.5 مليارات دولار عام 2021، في حين بلغت قيمة الواردات من روسيا 29 مليار دولار أميركي".
كما أبدى تخوفه من تعرّض تركيا لعقوبات غربية بسبب تعميق تعاملاتها مع موسكو الخاضعة لعقوبات اقتصادية مشددة خاصة في القطاع المصرفي، حيث أشار في هذا السياق إلى مقالة نشرتها صحيفة فايننشال تايمز ذكرت فيها أن موسكو تسعى للتهرب من العقوبات الغربية بمساعدة بنوك تركية، وأن مسؤولين أوروبيين أبدوا استياءهم من التقارب التركي الروسي.
ورأى دمير أن موافقة روسيا على دفع أنقرة جزءا من ثمن الغاز بالروبل، تأتي في إطار مساعي موسكو لفرض عملتها الوطنية في الصفقات الدولية في وجه اليورو والدولار، في ظلّ عقوبات اقتصادية غربية غير مسبوقة تطالها بسبب الحرب على أوكرانيا.
وتابع "إذا بدأت تركيا دفع ثمن الغاز لروسيا بالروبل، فإنها ستعمل على توفير المبلغ المقرر دفعه من عائدات السيّاح الروس والمنتجات التي تصدّرها إلى موسكو بالروبل. وفي حال عدم تمكّن الحكومة من توفير المبلغ المطلوب، فإنها إما ستشتري العملة الروسية بالدولار أو اليورو، أو أنها ستلجأ إلى الاقتراض من نظام الدفع الروسي (مير)، وبالتالي فإن هذا الأمر سيكلف خزانة الدولة أعباء إضافية مثل الفائدة المترتبة على القرض".
بدوره، قال الكاتب والمحلل جم كوتشوك في زاويته بصحيفة "تركيا" إن على الغرب أن يشكر تركيا التي لعبت دورا محوريا في توصل موسكو وكييف إلى اتفاق لتصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية إلى الأسواق العالمية، ووضعها حدا لأزمة غذاء عالمية كانت قاب قوسين أو أدنى".
واعتبر كوتشوك أن التصريحات التي نقلتها صحيفة فايننشال تايمز البريطانية عن مسؤولين أوروبيين وتعبّر عن انزعاج الغرب من تعميق أنقرة علاقاتها مع روسيا، هي بمثابة "نكران للجميل"، ولا سيما أن تركيا هي الدولة الوحيدة داخل الناتو التي تستطيع حاليا التحاور مع روسيا حول كافة الملفات، سواء فيما يخص مواصلة ضخ الغاز إلى أوروبا أو بشأن وجوب إنهاء العملية العسكرية ضد أوكرانيا.
وأشار كوتشوك في هذا السياق إلى تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه مع أردوغان، حين قال "إنه يجب على أوروبا أن تكون ممتنة لتركيا إزاء تدفق الغاز الطبيعي من روسيا إليها دون انقطاع".
وانتقد الكاتب استياء الاتحاد الأوروبي من تعامل تركيا مع روسيا بالعملة المحلية، مشيرا إلى وجود عدة دول أوروبية وافقت على طلب روسيا دفع ثمن الغاز المستورد بالروبل، وأضاف أن الاستياء الأوروبي له أسباب أخرى غير وجوب الالتزام بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وهي استهداف تركيا التي بدأت خلال السنوات الأخيرة بانتهاج نظام اقتصادي جديد قائم على الاعتماد على الموارد المحلية وتطوير قطاعي الإنتاج والتصدير.
وخلال السنوات الأخيرة، عززت العلاقات السياسية عجلة الحراك الاقتصادي والتجاري بين تركيا وروسيا في القطاعات السلعية والخدمية، مما ساهم في تسارع نمو قيمة التبادل التجاري بين البلدين.
ويتطلع البلدان -من خلال رزمة اتفاقيات- إلى رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار دولار سنويا، في الأعوام القادمة.
وبحسب الأرقام الرسمية، فقد زاد حجم التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو العام الماضي بنسبة 57%، محققاً 33 مليار دولار.
وتستورد تركيا من روسيا بالدرجة الأولى منتجات الطاقة وعلى رأسها الغاز الطبيعي، بينما تصدر إلى هذا البلد عددا من المنتجات في مقدمتها الزراعية.
ونفذت روسيا مجموعة مشاريع ضخمة في تركيا، أبرزها خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
كذلك تنفذ حاليا مشروع محطة آق قويو النووية، ومصنع شاحنات الغاز، وتحتل السياحة مكاناً مهماً في التعاون بين البلدين.