الجديد في ضخامة الدين القومي الأميركي هو أن هناك تسارعا ملحوظا في حجم الدين في الأعوام القليلة الماضية، الذي تجاوز هذا الأسبوع 31 تريليون دولار، وبدأ يشكل تحديات حقيقية للحكومة الأميركية ولدول كثيرة حول العالم. ما طبيعة ديون أميركا وما حجم المشكلة؟
في 1990 كان الدين القومي للحكومة الأميركية نحو تريليوني دولار، وكان وقتها يشكل نحو 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنه استمر في الارتفاع وبلغ 30 تريليون دولار مطلع 2022، وارتفع فقط منذ بداية العام الحالي بنحو تريليون دولار! التقديرات تشير إلى أن حجم الديون القومية العالمية بلغ نحو 300 تريليون دولار بنهاية 2021، ما يعني أن ديون أميركا وحدها تتجاوز 10 في المائة من الديون القومية العالمية، وهنا تتبين ضخامة الدين الأميركي.
المقصود بالدين القومي هو مجموع عمليات الاقتراض التي قامت بها الحكومة الفيدرالية في الأعوام الماضية، وهي في الغالب عبارة عن سندات حكومية بآجال متعددة، نصفها متوسطة المدى، في الأغلب من فئة عشرة أعوام. نحو 80 في المائة من المقرضين هم جهات دولية حكومية وغير حكومية وصناديق استثمار وصناديق تقاعد وبنوك دولية ومحلية وأفراد، وتقريبا 20 في المائة من المقرضين هم جهات تابعة لحكومات الولايات الفردية. من الجهات المهمة التي تقوم بإقراض الحكومة بشكل غير مباشر هناك مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي يقوم بشراء السندات الحكومية بعد إصدارها، وهي العملية التي تسمى توريق الدين أو طباعة النقود، حيث يقوم البنك المركزي بشراء السندات من السوق وإيداع أثمانها في الحسابات البنكية للبائعين، ما يعرف بضخ السيولة، وهو الإجراء المتبع في عمليات التيسير الكمي.
مشكلة الدين الأميركي حاليا مصدرها ليس فقط في ضخامة المبلغ، الذي يقدر بما يعادل 93 ألف دولار عن كل مواطن في أميركا، أو 247 ألف دولار عن كل مكلف بدفع ضرائب دخل سنوية، بل إن المشكلة هي أن صافي الفوائد على هذه الديون تصل الآن إلى نحو 450 مليار دولار سنويا، وهي مرشحة لمزيد من الارتفاع في الأعوام المقبلة مع ارتفاع معدلات الفائدة.
لأعوام طويلة كانت الحكومة الأميركية تقترض بسهولة تامة وبمعدل فائدة وصل في أحيان كثيرة إلى ما دون 1 في المائة. أما الآن فالفائدة على سندات عشرة أعوام ارتفعت في عام واحد من نحو 1.3 في المائة إلى نحو 4 في المائة حاليا، ما يعني تضاعف خدمة الديون الجديدة إن استمرت الحكومة بالاقتراض، وهي لا شك ستستمر بالاقتراض لأن مصروفاتها السنوية أكثر من إيراداتها، وهو ما نراه في العجز السنوي في الميزانية الحكومية لأكثر من 20 عاما متواصلة، حيث كان آخر فائض في الميزانية في 2001. وبالطبع لا يوجد خيار عملي ومقبول عدا الاقتراض، كون خفض المصروفات أو رفع الضرائب ليس بالأمر الهين.
بحسب النظرية النقدية الحديثة، وبمفهومها البسيط، لا يوجد قيود على أي دولة في الاستمرار بالصرف طالما كانت لديها سيادة نقدية، وطالما أنها تستطيع التحكم بوتيرة ارتفاع نسبة التضخم. هذا صحيح إلى حد كبير، وبالذات في الدول التي بالفعل لديها نسبة تضخم قليلة، مثل حالة الولايات المتحدة لأعوام طويلة. لذا نجد أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي حريص كل الحرص على كبح جماح التضخم، لأنهم يعلمون أن "اللعبة" ستنتهي لو أن التضخم خرج عن السيطرة. السبب في ذلك أن معدلات الفائدة التي تعتمد عليها الحكومة الأميركية في الاقتراض تتأثر بشكل مباشر بمعدل التضخم، لذا تحاول السلطة النقدية الإبقاء على معدل تضخم سنوي بحدود 2 في المائة، وإن زاد عن ذلك واستمر في ذلك فستواجه الحكومة صعوبات كبيرة في الاستمرار بالاقتراض لسد عجز الميزانية السنوية. بنهاية الشهر التاسع من العام هناك عجز في الميزانية يصل إلى أكثر بقليل من 1.1 تريليون دولار، علما أن العجز في العام الماضي كان نحو تريليوني دولار وكان أكثر من ثلاثة تريليونات دولار في 2020.
تتميز الولايات المتحدة عن جميع الدول بوجود عملة الدولار لديها، فهو العملة الوطنية الذي تقترض الحكومة بناء عليه وتسدد التزاماتها به، وهذا أمر مختلف عن الدول الأخرى التي لا تستطيع الاقتراض كثيرا بعملتها الوطنية، فتضطر إلى الاقتراض المقوم بالدولار. مشكلة الدول التي تقترض بالدولار، لضعف الثقة بعملتها الوطنية واضطرارها إلى دفع معدلات فائدة عالية، هي أن أصول القروض التي عليها سدادها ستكون بالدولار، وبحكم أن الدولار في حالة ارتفاع متواصل منذ عدة أعوام، فهذه الدول ستجد أن عليها دفع مبالغ أكبر بكثير عن حساباتها الأولية. وهذا مصدر التحدي الذي تواجهه دول كثيرة في أن رفع معدلات الفائدة الأميركية في الأغلب يؤدي إلى مزيد من الارتفاع في سعر صرف الدولار، عوضا على أن ذلك يرفع من معدلات الفائدة التي يستوجب على تلك الدول دفعها في حال الاقتراض بالدولار.
يبلغ الدين الأميركي حاليا 125 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وعلى الرغم من أن هناك دولا كثيرة لديها نسبة دين أعلى من ذلك بكثير، إلا أن هذه النسبة مضللة إلى حد ما لأنها عملية مقارنة بحجم اقتصاد كبير جدا، الأكبر في العالم. المقارنة الأفضل هي أن نحو 10 في المائة من الديون القومية في العالم هي من نصيب الولايات المتحدة.
*نقلا عن صحيفة "الاقتصادية".