شهد هذا الأسبوع بعض المؤشرات على أن الاقتصاد العالمي ربما يتفادى أزمة ركود عميق أو كساد، وإن لم تختف تماماً احتمالات الركود الاقتصادي في معظم الاقتصادات الرئيسة.
فمعدلات ارتفاع التضخم على وشك التباطؤ في دول منطقة اليورو والاقتصاد الأميركي "أكبر اقتصاد في العالم" لم ينزلق بعد إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي. وجاء تصريح رئيس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي" الأميركي جيروم باول نهاية الأسبوع بأن البنك لن يستمر في رفع سعر الفائدة حتى "يشل" الاقتصاد مطمئناً، وذلك مؤشر إلى توجه لدى البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة حول العالم بالبدء في تغيير مسار تشديد السياسة النقدية "رفع أسعار الفائدة وسحب السيولة من السوق" بهدف وقف ارتفاع معدلات التضخم.
ومع ذلك تظل التوقعات بين الاقتصاديين والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وشركات الاستشارات وبيوت الاستثمار الكبرى أن العام المقبل سيشهد ركوداً اقتصادياً. حتى وإن كانت المؤشرات الآن أنه لن يكون كساداً ولا حتى ركوداً عميقاً. وربما يستثنى من ذلك الاقتصاد البريطاني الذي هو في حال ركود بالفعل ووضعه أسوأ من بقية اقتصادات الدول المماثلة.
فما الركود الاقتصادي الوطني والعالمي؟ ولماذا كل تلك المخاوف والتحذيرات من حدوثه؟ وكيف يؤثر في وضع اقتصاد الدول المختلفة وفي حياة الناس العادية؟ في ما يلي محاولة للإجابة عن بعض التساؤلات حول الركود وتأثيره.
ما الركود؟
ليس هناك تعريف رسمي محدد للركود الاقتصادي، لكن معظم الاقتصاديين يتفقون تقريباً على أن أي اقتصاد يعتبر في حال ركود إذا شهد نمواً سلبياً للناتج المحلي الإجمالي "انكماشاً" لربعين متتاليين في العام "ستة أشهر متتالية". ويعرف ذلك بأنه "ركود تقني"، لكن لا يعلن الركود رسمياً إلا بعد أخذ عوامل أخرى في الاعتبار غير انكماش الناتج المحلي الإجمالي.
على سبيل المثال، في الولايات المتحدة فإن "المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية" هو الذي يحدد وضع الاقتصاد منذ نحو قرن من الزمان، وهو من يعلن رسمياً إن كان الاقتصاد الأميركي في ركود أم لا. ويأخذ المكتب في الاعتبار عوامل عدة أخرى غير نسبة نمو أو انكماش الناتج المحلي الإجمالي. ومن أهم تلك العوامل وضع سوق العمل من ناحية معدل البطالة في الاقتصاد وقدرته على التوظيف ومعدلات الأجور. وأيضاً معدلات نشاط التصنيع وإنفاق المستهلكين ووضع السوق العقارية. وكل تلك العوامل مترابطة تقريباً لكن مؤشراتها تتحرك بشكل مختلف.
وإجمالاً، يحدث الركود الاقتصادي في حال تراجع الطلب في الاقتصاد بشدة مقابل المعروض من السلع والخدمات. وغالباً ما يكون ذلك نتيجة ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير وما يستتبعه من رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة في محاولة كبح جماح التضخم، وهذا ما يضغط على الطلب نزولاً، وفي الوقت نفسه يحد من النشاط الإنتاجي.
2 ما الفارق بين الركود والكساد؟
يختلف الكساد وحتى الركود العميق عن الركود الاقتصادي، الذي يعد أمراً طبيعياً ضمن الدورة الاقتصادية في الاقتصادات الرأسمالية. ويشبه الركود الدوري المعتاد دورات نشاط الأسواق المالية "البورصة" مثلاً، التي لا تستمر مؤشراتها في الصعود بشكل دائم، وإنما غالباً ما يعقب الارتفاع المستمر في مؤشرات الأسهم هبوط في المؤشرات تختلف درجته.
وليس هناك تعريف محدد متفق عليه عالمياً أيضاً للكساد، إنما هو فترة ركود اقتصادي أعمق وأطول مدة. ويعود اختلاف الكساد عن الركود إلى عوامل عدة، منها أن الركود غالباً ما يكون لمدة أشهر إنما الكساد فيمتد لسنوات ويحتاج التعافي منه أيضاً إلى سنوات أطول.
ثم في حالات الكساد يكون انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة كبيرة جداً. أيضاً تكون معدلات البطالة في حال الكساد أعلى منها في الركود بكثير، وغالباً ما يكون الركود مقصوراً على اقتصاد بلد، أو حتى أكثر من بلد، لكن الكساد الاقتصادي يكون كحال عامة تطاول الاقتصاد العالمي كله.
لنأخذ مثالاً من أكبر اقتصاد في العالم، فعلى مدى القرن الأخير شهد الاقتصاد الأميركي وغيره والاقتصاد العالمي ككل أكثر من حال ركود كل فترة "أكثر من 11 ركوداً اقتصادياً منذ 1945 حتى 2008"، لكن العالم كله لم يشهد سوى حال كساد واحدة في القرن الأخير هي الكساد العظيم في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين "من 1929 إلى 1933"، وبعض التقديرات تقول إنه استمر عقداً من الزمن حتى 1939.
إذاً الركود قد يكون وطنياً، أي ركود اقتصادي في بلد ما أو بلدان عدة، أو عالمياً في كثير من البلدان بخاصة المتقدمة. أما الكساد فيكون عالمياً ويتراجع فيه النشاط الاقتصادي في كل القطاعات تقريباً بشكل أكبر وأعمق مما يحدث في حال الركود.
3 ما علاقة الركود بحركة الأسواق؟
بالنسبة إلى الأسواق، هناك اتفاق عام بين المتعاملين فيه ومحلليه على أن هبوط مؤشر أسهم ما بمعدل يصل إلى نسبة 20 في المئة تقريباً في فترة قصيرة يعني "انهيار" السوق، أي ركودها، بمعنى أن عمليات البيع للأسهم تزيد على عمليات الشراء. وتظل السوق في ركود حتى تبدأ عمليات الشراء تزيد على البيع وترتفع مؤشرات الأسهم مجدداً. وغالباً لا يأخذ ذلك وقتاً طويلاً، بحسب الظروف العامة لاقتصاد تلك السوق من نمو النشاط الاقتصادي واستقرار أسعار الفائدة وغيرهما من العوامل.
وإذا كان الهبوط في مؤشرات الأسواق ليس كبيراً نسبياً ولا لفترة طويلة فهو عملية "تصحيح". أما الهبوط الكبير في مؤشرات الأسواق، الذي يوصف بتعبير "انهيار" أي "ركود"، فهو يتكرر تقريباً بالشكل ذاته الذي يتكرر به الركود الاقتصادي.
ويعتبر ركود السوق مؤشراً إلى دخول الاقتصاد بشكل عام في ركود. وعلى رغم الارتباط في معظم الأحيان بين انهيار السوق وركود الاقتصاد، فإن الاقتصاد يدخل في الركود نتيجة عوامل أخرى كثيرة تضعف الطلب والنشاط في مختلف القطاعات كما أسلفنا، كما أن دورة الهبوط والارتفاع في الأسواق تتكرر بوتيرة أسرع مما يحدث للاقتصاد، وليس بالضرورة أنه مع عودة الاقتصاد للانتعاش تتحرك السوق في الاتجاه ذاته.
4 ماذا يعني الركود الاقتصادي للدول؟
يؤدي النمو السلبي للناتج المحلي الإجمالي، أي الانكماش وتقلص حجم الاقتصاد، إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي. ولأن الركود يكون مصحوباً بارتفاع التضخم بالتالي زيادة سعر الفائدة ترتفع كلفة خدمة الدين العام مع زيادة مدفوعات الحكومة للفوائد على دين الخزانة، كما أن مؤسسات التصنيف الدولية الرئيسة تخفض التصنيف الائتماني للبلد الذي اقتصاده في ركود، مما يجعل من الصعب على الحكومة الاقتراض من السوق الأولية أو حتى السوق الثانوية، ونتيجة ذلك تلجأ الحكومات إلى التقشف في ميزانياتها لسد فجوة العجز، وهو ما يؤثر سلباً في الاستثمار العام الذي يحتاج إليه الاقتصاد الراكد كي يستعيد نشاطه.
وهكذا تتعطل المشروعات العامة، سواء بالنسبة إلى قطاع البنية التحتية والخدمات أو حتى القطاعات الإنتاجية. ويستلزم ذلك سياسة مالية ونقدية في غاية الكفاءة للحكومات كي توازن بين تشجيع النمو للخروج من الركود وضبط دفاترها المالية من عجز ميزانية وحساب جار.
كما تلجأ بعض الدول إلى زيادة الضرائب والرسوم لتعزيز موارد الخزانة التي تتراجع مع عدم نمو الناتج المحلي الإجمالي. وتعتمد قدرة دولة ما على الخروج من الركود سريعاً وإنعاش اقتصادها على سياسة حكومتها في ترشيد استخدام مواردها لتنشيط اقتصادها. وتستفيد الدول التي بها قطاع خاص قوي من تحفيز هذا القطاع على المساهمة في استعادة النمو بإغراءات حكومية كما يحدث في غالبية الدول الرأسمالية الراسخة.
5 ما تأثير الركود على كلفة المعيشة؟
ولأن الركود الاقتصادي يكون مصحوباً بارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، فإن ذلك يعني بالتبعية زيادة في أعباء كلفة المعيشة للأسر. ويأكل معدل التضخم من القيمة الحقيقية للأجور مما يجعل دخل الأسر يقل عملياً حتى لو زادت الرواتب، وهكذا يقل الإنفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات. ومثلها مثل الدولة، ترتفع كلفة الاقتراض للأسر كي تنفق على احتياجاتها الأساسية وتعوض تدهور قيمة الدخول، كما أن استمرار الركود يكون مصحوباً بزيادة معدلات البطالة، بالتالي وجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل مما يضغط على قدرة الأسر لتحمل أعباء كلف المعيشة. ومع تردي النشاط في الاقتصاد في فترة الركود لا تتوفر فرص عمل بالقدر الذي يستوعب العمالة العاطلة. وليس بالضرورة أن تخفض الأسعار بقوة في فترات الركود الاقتصادي، بالتالي تتحمل الأسر أعباء مضاعفة للإنفاق على ضرورات المعيشة. وغالباً ما تضطر إلى تأجيل الحصول على متطلبات غير ضرورية بشكل حرج لتتمكن من الاستمرار.
لكن الأهم طبعاً هو أن ثقة الناس في المستقبل تتدهور، وهذا ما يقلل الإنفاق الاستهلاكي وربما يزيد من معدلات الادخار. وعلى رغم أن الادخار يكون مفيداً في توفير ملاءة محلية للاستثمار العام الحكومي فإنه بالضرورة ليس الحل الأمثل للأسر، بخاصة أن معدلات التضخم تأكل من قيمة المدخرات على المدى البعيد.
6 ما أفضل السبل لمواجهة الركود؟
بالنسبة إلى الدول تحتاج إلى تغيير السياسات الاقتصادية والمالية والتنسيق مع البنوك المركزية للتوازن بين جهد مكافحة التضخم عبر رفع أسعار الفائدة وعدم الإضرار أكثر بفرص النمو الاقتصادي، كما أن الدول التي تنجح في ترشيد سياستها التقشفية بما لا يضر بفرص الاستثمار العام لتنشيط الاقتصاد تكون في وضع أفضل للخروج من الركود بسرعة ومعاودة اقتصادها النمو، كما أن وجود قطاع خاص قوي ومسؤول يحتاج إلى إجراءات استثنائية من الحكومة بتغيير بعض السياسات لتشجيعه على زيادة النشاط. أما بالنسبة إلى الأسر والأفراد فمن المهم الموازنة بين الإنفاق والادخار، لأن زيادة الادخار تعني تقليص ثروة الفرد والأسرة على المدى البعيد، بخاصة عندما ينشط الاقتصاد وتنخفض أسعار الفائدة ويكون معدل التضخم قد أدى إلى تآكل قيمة المدخرات.
صحيح أنه في أوقات الاضطراب الاقتصادي وتراجع الثقة، مثلما في حال الركود، يتبع الناس الحكمة التقليدية بأن "النقد ملك"، أي يحتفظون بما لديهم في شكل سيولة نقدية "كاش"، لكن من المناسب اتباع المثل التقليدي "لا تضع البيض كله في سلة واحدة". والفرد والأسر التي تعتمد، على المدى الطويل، تنويع مصادر دخلها ومنافذ استثمار ثرواتها القليلة، تكون في وضع أفضل لمواجهة فترة الركود والخروج منها من دون أضرار كبيرة.
7 متى يعود الاقتصاد للنمو وينتهي الركود؟
وكما أشرنا في البداية، فالركود الاقتصادي حال متكررة وجزء من الدورة الاقتصادية الطبيعية في الاقتصادات الرأسمالية، أي "نمو يعقبه ركود يعقبه نمو وهكذا". وتعتمد مدة فترة الركود وعمقه على الأساسات الاقتصادية للبلد المعني أو الاقتصاد العالمي في حال الركود العالمي.
تاريخياً، متوسط فترة الركود في الاقتصاد الأميركي هي 11 شهراً "أي أكثر قليلاً من ثلاثة أرباع العام في المتوسط"، لكن هناك فترات ركود تكون طويلة، بخاصة التي تعقب أزمات عالمية كبرى كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، إذ احتاج الاقتصاد العالمي إلى نحو عام ونصف العام في المتوسط كي يعود إلى النمو مع تباين المدد في الاقتصادات المختلفة.
وهناك فترات ركود تكون قصيرة، كما حدث في أزمة وباء كورونا، ذلك لأنه كان ركوداً متعمداً نتيجة إغلاق الاقتصادات للحد من انتشار فيروس الوباء، لذا بمجرد زوال السبب، أي إعادة فتح الاقتصادات، عاد النمو الاقتصادي. وبالطبع هناك مؤشرات كما ذكرنا في المقدمة من بدء تباطؤ ارتفاع معدلات التضخم والتخلي تدريجاً عن التشديد النقدي بقوة، لكن الأهم هو نجاح السياسات الحكومية الاقتصادية والمالية التي تشجع النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات الأساسية من صناعة وتجارة وغيرها وفي الوقت ذاته تحسن من الطلب العام في الاقتصاد.