مشهد بات لبنانيين يحملون أكياس العملة الوطنية لتبديلها من المصارف التجارية جزءاً من الحياة اليومية للمواطنين في ظل "منصة صيرفة"، ولكن المستغرب أن "وهم الكسب السريع" حولها من مجرد أداة لتوحيد سعر الصرف وكبح ارتفاعه إلى أداة للتربح لدى شريحة كبيرة من الناس. وتحولت إلى سلوك منتظم، حيث يسعى لبنانيون إلى تحقيق الربح من الفرق بين السعر الذي يتم دفعه لشراء الدولار من خلال "صيرفة" المنصة التي يديرها مصرف لبنان، أي 38 ألف ليرة لبنانية، وسعر الدولار في السوق الحرة الذي بلغ حتى مساء الجمعة 44350 ليرة لبنانية. ومن اللافت قيام بعض الأفراد باستدانة بعض المبالغ من أجل بيعها إلى الصراف، ومن ثم التوجه إلى المصرف في اليوم التالي من أجل وضعها في الحساب والانتظار بعض الأيام من أجل الحصول على "الدولارات الموعودة" بفعل تعاميم المصرف المركزي. كما برزت المخاوف من نجاح مخطط "إخراج الأموال المدخرة في المنازل والمقدرة بـ10 مليارات دولار إلى السوق"، بالتالي حرمان المواطن العادي من الملاذات الآمنة لمواجهة أزمة الانهيار المالي والاقتصادي على المدى البعيد.
خلال ديسمبر (كانون الأول) 2022، تسارع انهيار سعر الليرة اللبنانية في السوق السوداء مقابل الدولار الأميركي، حيث تجاوز 48 ألف ليرة. فما كان من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلا أن أصدر بياناً أعلن فيه رفع سعر صيرفة من 31500 ليرة إلى 38 ألف ليرة لبنانية وبيع الدولارات من دون سقف. كما تضمن الإشارة بالاسم إلى "بنك الموارد" وإمكانية الاستفادة من خدمات صيرفة خلال فترة الأعياد. وقام البنك المذكور ومجموعة من البنوك الأخرى بخطوة مشابهة.
ويوضح رئيس مجلس إدارة بنك الموارد المصرفي مروان خير الدين عبر "اندبندنت عربية" أسباب تخصيص البنك بالاسم في بيان سلامة، لأنه "عندما قرر مصرف لبنان فتح منصة صيرفة أمام العموم، ومن دون أي سقف، لم يلتزم كثير من المصارف بمنطوق البيان، كما أن معظم فروعها مغلقة ولا تستقبل الزبائن إلا من خلال نظام الموعد المسبق"، مضيفاً، "أما فروع بنك الموارد فكانت تعمل بشكل طبيعي في كافة فروعه، وقد تواصل معنا البنك المركزي وسأل إذا ما كان هناك الاستعداد للقيام بعمليات صيرفة للعموم، وعدم الاقتصار على عملاء المصرف، وكان الجواب بالإيجاب". ووافق بنك الموارد على استقبال عملاء المصارف الأخرى بشرط تأمين بعض المستندات والبيانات لإنجاز المعاملة. ويشدد خير الدين على "عدم اشتراك الموعد المسبق لاستقبال العملاء، واتباع الأبواب المفتوحة لأي عميل".
يقود الحديث عن فتح صيرفة من دون سقف للتساؤل عن التناقض في المشهد "من جهة وجود وفرة في الدولارات لتغطية عملياتها، فيما تحتجز أموال المودعين في المصارف، ويحرمون منها". يجيب خير الدين، "لا أعتقد أن هناك وفرة بالدولارات لدى المركزي اللبناني لأن الدولارات استعملت في معظمها من قبل الدولة اللبنانية لتمويل العجز في ميزانيتها على مر الـ30 سنة الماضية"، لافتاً إلى أن "95 مليار دولار هي حجم الودائع المصرفية، وهو حجم ضخم مقارنة بعمليات صيرفة التي تقدر بعشرات الملايين من الدولارات". من هنا لا يرى خير الدين أي ترابط بين فتح صيرفة من دون سقف وإمكانية إعادة الودائع في الوقت الراهن لأن عمليات صيرفة هي صيرفة مالية بحتة تقوم على استبدال مبالغ مالية بالليرة اللبنانية مقابل مبالغ بالعملة الأميركية وفق سعر قريب من السعر في السوق الموازية.
ويحدد خير الدين الأهداف من تدخل المصرف المركزي بالسوق وإجراء عمليات في "السوق المفتوحة"، وعليه "عندما يحقق المصرف المركزي هذه الأهداف سيعلن عبر تعاميم أخرى استراتيجيته المستجدة في ذاك الحين". ويخلص إلى أن "حالياً وحتى إشعار آخر، يستمر التعامل مفتوح عبر صيرفة ومن دون سقف للعملاء عبر مصارفهم بعد انضمام مختلف المصارف إلى إجراء العمليات المشابهة بعد انقضاء عطلة العام الجديد 2023"، مشيراً إلى أن "للمصارف سقوفاً تتعلق بكل عميل على حدة، ولكن المصرف المركزي أفسح المجال للجميع من أجل استبدال العملة المحلية بالدولار على سعر صيرفة بغية تحقيق رغبة مصرف لبنان بتقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية".
يؤكد الباحث الإحصائي عباس الطفيلي أن حجم عمليات صيرفة بلغ 12 مليار دولار في عام 2022، وتجاوز 900 مليون دولار في الأيام الخمس الأولى من عام 2023، ويسعى إلى امتصاص جزء كبير من الكتلة النقدية بالعملة الوطنية المقدرة بـ82 ألف مليار ليرة لبنانية أصدرها مصرف لبنان، وهناك قدرة على امتصاصها لقاء مليار ونصف مليار دولار، تمهيداً لتوحيد سعر الصرف بعد حدوث التوافق السياسي والصفقة الرئاسية.
ما يجري على صيرفة، يفتح الباب إلى طرح علامات استفهام حول المستفيد الحقيقي من عائدات تلك المنصة، علماً أن المصارف تضع سقوفاً للأفراد العاديين تراوحت بين 200 و400 دولار شهرياً للفرد. في موازاة، دخول مصرف لبنان عالم الصرافة وتبديل الأموال، فتح عالم الصرافة أمام شركات تحويل الأموال بسعر وسيط بين صيرفة والسوق الموازية لتأمين امتصاص الدولارات القادمة من الخارج في حال عدم استجابة الصرافين الكبار لطلباته.
يلفت الطفيلي إلى أن لبنان أنفق منذ 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 عندما أعلن الحاكم أن بحوزته 32 مليار دولار كاحتياط وإلى بداية 2021، ما يوازي 13 مليار دولار على دعم السلع كالمحروقات وغيرها ليبلغ الاحتياط في منتصف 2021 مستوى 14 مليار دولار. وبدأ الرفع التدريجي للدعم عن السلع مع تراجع الاحتياطات بالعملات الأجنبية. كما قام بإنشاء صيرفة لهدفين: تأمين الدولارات للتجار الذين يستوردون السلع الأساسية، وضبط سوق الصرف ومحاولة امتصاص الكتلة النقدية الهائلة. ويضيف أنه بين إنشاء صيرفة وإصدار التعميم 161 في منتصف نوفمبر 2021، الذي يسمح للعملاء سحب مبلغ نقدي بالدولار من حساباتهم بالليرة اللبنانية على سعر منصة صيرفة، بحسب سقف السحب النقدي المحدد لكل عميل، بدأ العمل به في يناير (كانون الثاني) 2022، و"كان هدف صيرفة هو منع ارتفاع الدولار لأنه بعد رفع الدعم بدأت السوق الموازية بالاتساع لأن طلب التجار ازداد على الدولار، وبدأ تأثير الكيدية السياسية على سعر الصرف بالظهور".
من هنا، يشدد الطفيلي على السؤال "من هي الجهات التي استفادت من صيرفة؟". وينبه إلى أن الخطوة المقبلة ستكون برفع الدولار الرسمي من 1500 إلى 15 ألف ليرة لبنانية، ولكنه "قام بتأجيل ذلك إلى فبراير (شباط) المقبل بناءً لتمنٍّ سياسي"، جازماً أن ما يقوم به حاكم المصرف المركزي حالياً ليس من مهامه، وإنما من واجبات السلطة السياسية والقوى الاقتصادية، ولكننا أمام "تسليم سياسي مطلق من كافة الجهات لأخذ الإجراءات التي يراها".
يلفت الطفيلي إلى خاصية "الدولرة" التي تتحكم بالاقتصاد اللبناني، وهو على خلاف بلاد العالم يدخل الدولار في التداولات والتعاملات اليومية للأفراد، وهذا أمر ممنوع أو محدود في البلدان الأخرى التي تقتصر حيازة العملة الأجنبية الصعبة على البنوك المركزية ولا تستخدم في التعاملات. وفي التجربة اللبنانية، يدعو إلى التمييز بين ما قبل الأزمة الحالية والوضع الراهن. ففي الفترة السابقة لعام 2019، كان المصرف المركزي هو مصدر الدولارات بفعل ثبات واستقرار سعر الصرف عند مستوى 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، الذي اعتمد مع قدوم رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري إلى السلطة في لبنان وبدء الإعمار في حقبة ما بعد الحرب، ولكن بعد الأزمة، ظهرت صيرفة في يونيو (حزيران) 2021، في التوازي مع الرفع التدريجي للدعم على السلع الأساسية، موضحاً، "في ظل سياسة الدعم المعتمدة في السابق، كان حجم السوق الموازية للدولار ضئيلة للغاية، ولا تتجاوز مليوني دولار يومياً، ولكنه كان هو الطاغي والمؤثر في نفسية وسلوك الأفراد والمؤسسات بسبب غياب السياسات الرقابية".
يعتقد الطفيلي أن الهدف من صيرفة هو "بلوغ مرحلة إمساك المصرف المركزي بالعملة الصعبة"، وهذا مرهون بنجاح المصرف المركزي باستراتيجيته، مكرراً أن مطلب الرأي العام معرفة المستفيد النهائي من المليارات المنفقة على صيرفة، لأن "الحاكم يقول إن المصارف حصلت على 4.7 مليار دولار عبر صيرفة، ولكن الإحصائيات تشير أن الرقم دون ذلك، بالتالي هناك من استفاد على حساب آخرين". وينطلق الطفيلي من هذا الأمر، ليتحدث عن الاستيراد المفرط من الخارج، ففي الفترة الفاصلة بين يوليو 2022، ونهاية العام خرج من لبنان ثمانية مليار دولار تأمنت من خلال صيرفة، وعليه فإن "المستفيد هي تلك الفئة التي راكمت ثروات بفعل الفرق بين سعر صيرفة والسوق الحرة. فهؤلاء حصلوا على دولارات صيرفة لاستيراد بضائع، ومن ثم بيعها للمستهلك العادي على ضوء السعر المرتفع للسوق الحرة"، بحسب الطفيلي، الذي يتحدث عن "تجار تابعين للقوى السياسية والأحزاب، استفادوا في السابق من سلة السلع المدعومة إبان حكومة حسان دياب بموجب (سلة راوول - نسبة لوزير الاقتصاد راوول نعمة)، وهم يستفيدون من دولارات صيرفة على حساب المواطن العادي".
يخلص الطفيلي إلى تحذير المواطنين العاديين الذين يتعرضون للإغراء ببعض الربح وفق آلية صيرفة، قائلاً، "نجحت صيرفة بإخراج جزء من المدخرات في المنازل إلى السوق، وهي المبالغ التي قدرها الحاكم رياض سلامة بـ10 مليارات دولارات مع بدء الأزمة". ويأسف أن "لعبة الفرق 12 في المئة بين السوق الحر وصيرفة، نجحت في إقناع الناس بالتخلي عن حذرها"، ناصحاً اللبنانيين بكيفية التعامل مع الملاذات الآمنة، "لا تبيعوا الدولار والذهب إلا في حدود حاجاتكم، لأن الذهب الذي يصدر من لبنان خلال الأزمة لن يعود مطلقاً".