منذ الانتفاضة الثانية تتصاعد الرقابة على حركة المال في قطاع غزة من جهات أمنية واستخبارية عدة ليست إسرائيلية حصراً، وفي سبيل ذلك، شكّلت "إسرائيل" عدداً من اللجان الأمنية والوحدات المتخصصة بحركة المال الوافد إلى القطاع، وحتى الخارج منه.
بينما يزداد التركيز الأمني على منع نقل الأموال إلى الضفة المحتلة، أياً كان عنوانها، إنسانياً أو خيرياً أو لدعم عائلات الشهداء والأسرى، لا يغيب قطاع غزة عن الرادار. على الجبهة الأخيرة، وقع تطور لافت في نهاية العام الماضي، حين أوردت إذاعة "الجيش" الإسرائيلي خبراً في 19/12/2022 يقول إن محكمة إسرائيلية وافقت للمرة الأولى على مصادرة أموال من "محافظ رقمية" بقيمة 116 ألف شيكل (نحو 32 ألف دولار) "من شركة صرافة تساعد حماس".
كانت قضية المحافظ الرقمية قد دخلت في رحى حرب المال بعد التضييق على المصارف وشركات التحويل ومحال الصرافة، وخصوصاً أن المقاومة أعلنت منذ سنوات إمكانية تلقيها تبرعات بالعملات الرقمية، لكن منذ الانتفاضة الثانية تتصاعد الرقابة على حركة المال في غزة من جهات أمنية واستخبارية عدة ليست إسرائيلية حصراً.
في سبيل ذلك، شكّلت "إسرائيل" عدداً من اللجان الأمنية والوحدات المتخصصة بحركة المال الوافد إلى القطاع، وحتى الخارج منه. وقد تُرجم هذا الاهتمام إلى أنشطة وقيود أمنية عدة تركز حالياً على محال الصرافة المتهمة بنقل الأموال إلى المقاومة على أنها "جهات إرهابية"، لتكون هدفاً مشروعاً للقصف خلال الحروب.
أما المصارف وشركات التحويل الدولية، فهي تعمل وفق المعايير الصارمة التي يتشارك في وضعها الإسرائيليون والأميركيون والأوروبيون وأنظمة عربية (مطبعة وغير مطبعة). وتتشدد المصارف المحلية المعتمدة دولياً والتابعة لنظام النقد الدولي في القيود على تلقي الأموال عبر حسابات العملاء لديها، وتصل التشديدات حتى على فتح حسابات وإيداع أموال لديها.
هذه المصارف "لا تمزح" في هذا الموضوع، كما يقول مسؤول أحد الفروع في غزة، الذي يؤكد أن مصارف القطاع "تلتزم التعليمات بشكل حديدي كي تحافظ على عملها ضمن النسق الدولي"، وهو ما يسمح لها بتلقي أموال المشاريع الدولية وصرف المنح والرواتب عبرها. ومن ضمن القيود:
بشأن التعامل مع المصارف الإسرائيلية، كان محافظ سلطة النقد الفلسطينيّة، عزّام الشوّا، أعلن اتفاقاً بين "النقد" والمصرف المركزيّ الإسرائيليّ في نهاية 2018 يقضي باتباع آليّة جديدة لإدارة المعاملات المصرفيّة، هي إنشاء هيئة حكوميّة إسرائيليّة تحت إشراف "المركزيّ"، تكون بديلة في التعامل مع الفلسطينيّين من مصرفي "ديسكونت" و"هبوعليم" الإسرائيليّيْن.
سبب الارتباط مع الإسرائيليين في هذا المجال هو غياب عملة فلسطينية، ما يجعل العمليات الاقتصادية تعتمد على الشيكل الإسرائيلي إلى جانب الدولار والدينار. ووفق "برتوكول باريس"، "إسرائيل" هي المسؤولة عن تقديم الخدمات المصرفية عبر هذين المصرفين، ما يعني رقابة إسرائيلية دقيقة وإحاطة معلوماتية كاملة على المصارف الفلسطينية.
في حزيران/يونيو 2022، تحوّل الحديث عن هيئة حكومية إسرائيلية إلى كلام على شركة دورها تمكين تحويل الأموال إلى السلطة. ورغم تأسيس الشركة في وقت مبكر من 2019، فإنها كانت لا تزال غير قادرة على العمل، بانتظار ضوء أخضر حكومي.
اللافت أن صحيفة "يسرائيل هيوم" أوردت خبراً يقول إن الدافع من إنشاء الشركة هو "التخوف من رفع دعاوى قضائية ضد ديسكونت وهبوعليم بعد سنوات من اتصالهما مع المصارف الفلسطينية". السبب أنَّ معلومات استخبارية إسرائيلية وتقارير دولية تشير إلى أن المصارف الفلسطينية "لا تلتزم المعايير الدولية المتعلقة بتحويل أموال الإرهاب وحظر غسل الأموال. لذلك طولبت المصارف الإسرائيلية بسحب أنشطتها"!
بالمثل، طاولت اتهامات أخرى مجموعة من المصارف في تركيا، وحتى في بريطانيا، بالشبهة نفسها، وأشهرها "أتش أس بي سي" (HSBC)، مع إشارة إلى مصرفين في غزة تابعين لـ"حماس"، أحدهما "الإنتاج"، علماً أن فروع الأخير تعرضت للقصف خلال الحروب الماضية.
بالتوازي مع المصارف وشركات الصرافة، تفرض خدمات التحويل الدولية كافة جملة من القيود على تحويل الأموال إلى غزة للتحكّم في قدر الأموال التي يمكن أن تصل القطاع، وأيضاً للتحقق من الجهات التي ترسلها كي لا تستخدم لمصلحة فصائل المقاومة.
أبرز الخدمات الدولية التي تسمح بتحويل الأموال من دول العالم إلى القطاع:
يأتي هذا إلى جانب "جوال باي"، وهي خدمة داخلية بين المدن لأغراض التسوق، وتعد فعالة بين مدن الضفة والقطاع. عموماً، تعمل الخدمات الدولية كافة ضمن بروتوكول واحد، إذ تُرسل الحوالات إلى القطاع برقم حوالة يستلمها المواطن من مكاتب صرافة شهيرة، والأخيرة بدورها تستلم المبالغ التي تصرفها من المصارف المحلية المرتبطة بنظام النقد الدولي "سويفت".
هنا، بدأت القيود على الخدمات المالية تتصاعد منذ أكثر من 15 عاماً، إذ كان يُسمح سابقاً بتلقي مبالغ تتجاوز 15 ألف دولار بلا علاقة قرابة بين المرسل والمستقبل، لكن منذ 2014 بدأ السقف يهبط تدريجياً مع طلب علاقة عمل بين المرسل والمستقبل
هذا الوضع الحرج والمعقد جعل شركات الصرافة تضع جملة كبيرة من القيود، لأن تجاوز النظم يعني تعرضها للتصنيف بـ"الإرهاب" وتجميد أصولها وأموالها في المصارف الدولية والمحلية.
ثمة وجوه أخرى لهذه الحرب، منها اعتقال كل من يشتبه في علاقة مالية تربطه بالمقاومة. مثلاً، في منتصف حزيران/يونيو 2016، أقدم الاحتلال على اعتقال مدير مؤسسة "الرؤية العالمية" (World Vision International) في غزة، محمد خليل الحلبي، بتهمة نقل الأموال إلى "حماس".
خلصت 172 جلسة محاكمة بحق الحلبي إلى الحكم عليه بالسجن الفعلي 12 سنة في 8/2022، علماً أن ما حوكم عليه ليس سوى مساعدات عينية قدمها إلى عدد من الأشخاص ذوي الوضع المادي الصعب، وهم منتمون إلى "حماس"، حتى إن وزارة الشؤون الخارجية الأسترالية أعلنت قبل الحكم أن فحصاً أجرته على المؤسسة التي كان الحلبي يديرها أثبت أن الاتهامات غير صحيحة، وأن "الأدلة لم تتوصل إلى أنه متورط في مساعدة حماس".
من جهة أخرى، وقّع وزير الأمن الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، ضمن حربه على محال الصرافة في نهاية 2021، على قرار بمصادرة عملات رقمية مشفرة تعود إلى محال صرافة في غزة بتهمة دعمها "حماس". هذه العملات صودرت من 12 حساباً رقمياً تشمل نحو 30 محفظة رقمية لكيانات تجارية، صودر منها ملايين الشواكل.
اللافت أن إعلان مكتب غانتس كشف الجهات المعنية بهذا الملف، إذ قال إن المصادرة جاءت بتنسيق بين عدد من الوحدات: مكتب "مكافحة الإرهاب الاقتصادي"، ووحدة "لاهف 433" التابعة للشرطة، وإدارة الملف السيبراني في مكتب المدعي العام، واستخبارات الجيش "أمان".
تمثل خدمة تحويل الأموال في "السوق السوداء" أبرز الطرق المعتمدة لدى المواطنين والمتبرعين والفصائل للتحايل على الرقابة الدولية المفروضة على حركة المال، وتكون بتسليم المرسل مبلغاً لمكتب صرافة خارجي، على أن يسلمه مكتب صرافة في غزة للمواطن بخصم مبلغ معين في مقابل حركة التحويل يبدأ من 1% من قيمة المبلغ، ويصل إلى 5% في أحيان أخرى، وفق البلد الذي يجري التحويل منه.
يقول أحد أصحاب محال الصرافة إنَّ هذه الطريقة ازدهرت خلال الأعوام العشرة الماضية، وصارت معتمدة لدى السكان والجمعيات، وحتى الفصائل، لتلقي أموال التبرعات أو الحوالات الأسرية. وتُعد مصر وتركيا ولبنان ودول الاتحاد الأوروبي من أبرز الأماكن التي ترسل الحوالات إلى غزة، بسبب وجود أعداد كبيرة من الفلسطينيين المغتربين فيها، وأيضاً قلة الرقابة على عمل الصيارفة.
في الوقت نفسه، تساهم سهولة تحويل الأموال وسرعتها، وانتفاء الحاجة إلى أوراق ثبوتية بخلاف الهوية الشخصية، عاملاً مغرياً للجوء إلى هذه الطريقة، لكن تتعقد الأمور أكثر عندما يتعلق الأمر بدول مثل العراق وإيران والولايات المتحدة والخليج، بسبب الرقابة الشديدة، وأيضاً قلة عدد الفلسطينيين فيها، فيلجأ المضطرون إلى طرق أكثر تعقيداً، مثل تحويل الأموال من تلك الدول إلى دول أخرى، ثم إلى غزة، ما يضاعف حجم الخصومات التي تُحسم من المبلغ الأساسي.
في المقابل، ومنذ 9 سنوات، شرعت الأجهزة الأمنية في غزة في فرض رقابة صارمة على الحوالات التي تصل القطاع، سواء عبر مكاتب الصرافة أو الخدمات المالية المعتمدة. وتُلزم الأجهزة الأمنية مكاتب الصرافة تقديم كشوف شهرية تظهر الحوالات التي وصلت المواطنين.
وبينما يتولى جهازا "المباحث" و"الأمن الداخلي" الرقابة على الحوالات من خدمات التحويل المعتمدة، يتولى "استخبارات القسام" الرقابة على الحوالات التي تصل عبر مكاتب الصرافة، وذلك ضمن بروتوكول أمني موحد.
يتدرج هذا البروتوكول من المتابعة إلى التحري، فالاستدعاء وتقديم مبرر تلقي الأموال والأوراق ذات العلاقة أو إثبات صلة القرابة، وصولاً إلى التحقيق في حالات معينة.
تبرر الأجهزة الأمنية إجراءاتها بأن "الجبهة الداخلية عرضة للاختراق"، وأن كثيراً من الجهات المعادية (أجهزة استخبارات، جمعيات مشبوهة، مشاريع إفساد) يرسل الأموال إلى القطاع لإثارة الرأي العام أو تحقيق أغراض أمنية بطابع مدني.
أما بشأن تلقي المقاومة أموالها، فتتحفّظ المصادر على نشر طرق كثيرة، رغم أن عدداً منها معروف للإسرائيلي، "لأن هناك فرقاً بين الحرب الخفية والإقرار بالطريقة عبر الإعلام، حتى لو عبر مصادر لا تكشف نفسها".
تبعات هذا الأمر، وفق المصادر، قد تطاول الناس أيضاً. لذلك، ليس هناك مصلحة في الحديث عن الطرق، لكن النتيجة المؤكدة أن المال، رغم بعض الخسارات والحرب التي تشتد يوماً بعد آخر عليه، لا يزال يصل إلى الأيدي التي تستحقه.
في المقابل، وإن أفلحت بعض العمليات الإسرائيلية في قتل أشخاص معنيين أو مصادرة أموال أو حتى قصفها، ورغم كل الترهيب للصرافين وأصحاب العلاقة، لا يمكن لـ"تل أبيب" أن تدعي أنها فازت في هذه الحرب، كما تحاول أن تروّج عبر الإعلام أو الكتب، حتى إن المصادر تكشف قصصاً غريبة، وأخرى طريفة، في هذه الحرب، لكنها تصرّ على التحفظ عن النشر إلا بعد مرور عدد كبير من السنوات، وهو التحفظ نفسه الملموس في "حربة الصيد" ومصادر إعلامية إسرائيلية أخرى.
يمكن القول إن لا منتصر في هذه الحرب التي لا تنتهي، إنما هي جولات كر وفر، في وقت لم تلغِ المقاومة خياراتها الطرق التقليدية أو الإلكترونية، بل عملت على استعمالها بأساليب مبدعة وتحت أعين العدو لإيصال الأموال.
الثابت الآخر أنْ لا أرقام رسمية للمصادرات أو الأموال المجمدة، لكن تقريباً مع كل خبر اعتقالات في الضفة هناك حديث إما عن مصادرة أسلحة أو أموال بألوف أو عشرات ألوف الشواكل، وإما عن الاثنين معاً. أما في غزة، فتبقى المعركة أكثر صمتاً وأثقل وطأة.