في ليالي العشر الأواخر من رمضان، تضج مناطق لبنانية في بيروت والشمال والجنوب والبقاع، بتحضيرات عيد الفطر، كل منطقة وفق عاداتها وتقاليدها.
في شمال لبنان، حيث تشتهر طرابلس بإحياء المناسبات الدينية، تكتظ شوارعها ليلا حتى طلوع الشمس بالسيارات، وتمتلئ أسواقها الشعبية بالناس. وتحت أنوار الفوانيس الرمضانية، يتسابق أبناء طرابلس وزوارها إلى محلات الملابس والحلويات لشراء مستلزمات العيد.
ومن أمام برج الساعة العثماني في "ساحة التل" وسط طرابلس، ينطلق الناس ليلا في الأسواق الداخلية في الشطر العتيق وسط أصوات الباعة الذين يفترشون الأرصفة لبيع الملابس والإكسسوارات والعصائر بأسعار تنافسية.
ويحتوي المشهد في طرابلس على تناقضات كثيرة، ورغم أن الأسعار بأسواقها الشعبية أخف وطأة من مناطق أخرى، لكن معدلاتها تتجاوز قدرة الفقراء الذين يمثلون 80% من سكان لبنان وفق تقديرات أممية.
وسط السوق "العريض" سألت الجزيرة نت أُمّا لطفلتين عن كيفية استعدادها للعيد وهي زوجة عامل نظافة لا يتجاوز راتبه الشهري 40 دولارا، فأجابت "حصلت على قسيمة مالية من إحدى الجمعيات الخيرية لشراء ملابس العيد وتبقى مليون ليرة (نحو 10.5 دولارات) تكفي لشراء المعمول".
هذه السيدة، واحدة من مئات الأسر التي تعتمد على المساعدات المالية لتوفير مستلزمات العيد، التي صارت تشكل ضغطا نفسيا واجتماعيا في بلد يمر بواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم.
وداخل محل لبيع الأحذية، نجد رب أسرة يجادل البائع لتخفيض سعر حذاء لطفله من 15 إلى 10 دولارات، ويشكو للجزيرة نت جشع التجار الذين فرضوا تسعير البضائع بالدولار بدل الليرة بعدما سمحت لهم السلطات بذلك. ويؤكد أنه لم يمكن ليستطيع تلبية الحد الأدنى من مستلزمات العيد لو لم يرسل له شقيقه المغترب 100 دولار.
ورغم التكافل الاجتماعي الذي تشهده طرابلس ومناطق أخرى في الأعياد، إلا أن عددا كبيرا من الأسر يشكو من عدم الحصول على المساعدات. ويعتبر مراقبون ذلك نتيجة طبيعية لعدم توحيد بيانات جميع الأسر بين الجمعيات الخيرية، وتقاعس السلطات عن القيام بهذه المهمة الملحة، وهو ما يحول دون التوزيع العادل لهذه المساعدات.
وأمام محل نسائي، تقول عفاف -وهي عاملة في أحد المطاعم- إنها قررت ألا تشتري ملابسا جديدة للعيد، بسبب عدم قدرتها على الحصول على مساعدات مالية وأكدت أن راتبها يكفي فقط لشراء دواء أمها المصابة بالسكري والضغط وليس لديها تأمين طبي.
وفي محل لبيع ملابس الأطفال، يقول محمد صاحب المحل إن نمط الشراء اختلف بعد انهيار الليرة اللبنانية، إذ باتت الأسر تتجه إلى الأرخص وإن كان بجودة متدنية جدا، وأدى ذلك إلى استغناء التجار عن استيراد البضائع ذات الجودة الجيدة. ويضيف "نضطر لخفض الأسعار كثيرا لأن معظم الزبائن من الأسر الفقيرة، كما أن سوق البالة دخل منافسا شرسا بعد الأزمة".
وصادف شهر رمضان لهذا العام إحياء اللبنانيين من الطوائف المسيحية لأعياد الفصح والشعنينة، فتضاعفت حركة الأسواق والمطاعم ومحلات الحلويات. وتشتهر طرابلس بصناعة أفخر أنواع الحلويات العربية، من أصناف معمول العيد المحشوة بالفستق والجوز والتمر. وأصبح سعر الكيلو لا يقل عن 12 دولارا، وهو ما يعادل ربع راتب موظف عام.
وفي ميناء طرابلس التي يسكنها مسلمون ومسيحيون، دخلت الجزيرة نت أحد محلات الحلويات الشهيرة، ويؤكد صاحبه أن تحضيرات عمل الحلوى المخصصة لرمضان والأعياد لم تتوقف. وعن وتيرة المبيعات، يقول إنهم بدؤوا التسعير بالدولار، كما اضطروا لخفض جودة المواد المستخدمة في الحلوى للسيطرة على الأسعار. ويؤكد أن العديد من الجمعيات الخيرية تشتري حلوى العيد لتوزيعها على الأسر الفقيرة.
وتحلّ الأعياد هذا العام مع توجه لبنان إلى "الدولرة" شبه الشاملة للأسعار، بعد أكثر من شهر على قرار وزارة الاقتصاد الذي سمح لمحلات التجزئة التسعير بالدولار وبسعر صرف السوق السوداء، مما ضاعف الضغوط على كاهل المواطنين. في وقت لم تشهد فيه رواتب موظفي القطاع العام المضربين عن العمل أي تصحيح جذري، وانخفضت لما يعادل 50 دولارا.
وفي حديثه مع الجزيرة نت، يفيد رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس أن القطاع التجاري في شهر الأعياد، شهد تحسنا بمعدل لا يتجاوز 10% قياسا عن العام الماضي، بعدما تدهور بنحو 80% قياسا لما قبل انفجار الأوضاع الاقتصادية والمصرفية في خريف 2019. ووصف الواقع الحالي بـ"المراوحة السلبية".
ويقول شماس إن اضطرار التجار لفرض التسعير بالدولار أدى إلى ارتفاع أسعار السلع، خصوصا مع رفع الدولار الجمركي من 1507 ليرات إلى 15 ألفا ثم إلى 45 ألفا على التوالي. ويوضح أن السلع الاستهلاكية في الأعياد أصبحت من الكماليات نتيجة تآكل قدرة اللبنانيين الشرائية.
وقبل أيام، خلصت دراسة أعدها مركز "الدولية للمعلومات" إلى أن كلفة المعيشة بلبنان ارتفعت 196% مع بداية أبريل/نيسان 2023 مقارنة بأكتوبر/تشرين الأول 2022. وأشارت الدراسة إلى أن كلفة معيشة الأسر أصبحت تتراوح بين 39 مليون ليرة (402 دولار) و77 مليون ليرة (نحو 793 دولارا) شهريا بالحد الأدنى من دون احتساب كلفة العلاج الطبي.
ويصف الخبير الاقتصادي منير يونس حركة الأعياد الاقتصادية بالموسمية ولا تعكس نموا أو تعافيا من الأزمة. وقال للجزيرة نت إن أي انتعاش حقيقي يتجلى بالمؤشرات المصرفية وحلّ أزمة المودعين المستمرة منذ 3 سنوات.
وقال الخبير إن معظم العائلات اللبنانية تعتمد في المناسبات والأعياد على مصادر دخل إضافية من تحويلات المغتربين، وحذر من تداعيات أكثر خطورة للانهيار الاقتصادي مع اقتراب نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان في يوليو/تموز المقبل، وانسداد أفق الحلول، وإخفاق غير معلن لمفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي.