تلقي الاشتباكات العنيفة التي اشتعلت في عدة مدن سودانية بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بظلالها الكثيفة على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في بلد يكابد أوضاعا قاسية جراء أزمات متراكمة.
وألحقت المواجهات التي بدأت في 15 أبريل/نيسان الجاري واستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة ومضادات الطيران والقصف الصاروخي خسائر كبيرة بالمرافق الحيوية في العاصمة الخرطوم، وعلى رأسها المطار الدولي ومباني القيادة العامة للجيش والقصر الرئاسي وعدد من البنوك والمستشفيات ومقار حيوية.
كما أثرت على خدمات المياه والكهرباء التي شهدت انقطاعا لأيام، مما ضاعف معاناة عشرات الآلاف من المواطنين الرازحين تحت القصف وأصوات الرصاص.
وتخفض التطورات العسكرية التي لم تكن بالحسبان توقعات صندوق النقد الدولي بتراجع معدل التضخم في السودان إلى 77% بنهاية العام، ولم تضع توقعات الصندوق في حسبانها اندلاع الصراع الحالي.
فخلال فبراير/شباط الماضي بلغ معدل التضخم السنوي 63.3% مقارنة بـ83% لشهر يناير/كانون الثاني، فيما لم يصدر الجهاز المركزي للإحصاء تقديراته لشهر مارس/آذار الماضي، وحسب تقديرات وزارة المالية فإن مستوى التضخم سينخفض إلى 25% بنهاية العام الجاري.
لكن مع التطورات الأمنية والعسكرية التي جرت تلاشت الآمال في تراجع معدلات التضخم خلال الشهور القادمة، فمنذ أشهر دخلت الأسواق السودانية في حالة انكماش خانقة تبدت في ركود السلع وانخفاض المشتريات بسبب موجة الغلاء، مع تراجع سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية (الدولار يساوي 600 جنيه تقريبا).
وعلق البنك الدولي مساعدات للسودان بنحو 500 مليون دولار كانت مخصصة لدعم الميزانية كجزء من تعهد بمنح قدرها مليارا دولار، وكذلك علق صندوق النقد تمويلا بنحو 150 مليون دولار بعد أن وافق في يونيو/حزيران 2021 على برنامج قروض بقيمة 2.5 مليار دولار.
بدوره، يشير الخبير الاقتصادي وائل فهمي إلى تقديرات أجنبية تتحدث عن أن الصرف اليومي على الاشتباكات الدائرة بين الجيش والدعم السريع يتجاوز نصف مليار دولار يوميا.
وقال فهمي في حديثه للجزيرة نت إن السودان يعتبر واحدا من أفقر دول العالم رغم أنه ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، ويعتمد في إنتاج 80% منه على القطاع الأهلي الذي بدوره يهرّب أكثر من 70% منه للخارج.
ويضيف "في مثل هذه الحالة لا محالة سيتم اللجوء من أجل تمويل هذا الصراع إلى الطباعة المكثفة للنقود، خاصة في ظل الحصار المالي على الخزينة العامة وضعف القاعدة الضريبية الناتجة عن انكماش النشاط الاقتصادي بالسودان، مما سيزيد أوار الأسعار المحلية للبضائع، ومن ثم تفاقم أزمة التضخم الجامح الموروث أصلا من الفترات السابقة لهذه الحرب".
ومع غياب المعلومات الكاملة لهذه الحرب التي لم تكن متوقعة يطرح فهمي سؤالا عن المطلوبات المالية للاستمرار في الإنفاق على المعارك لأطول فترة ممكنة، ويشير إلى أن سرعة الإنفاق على الحروب أعلى من سرعة أو قدرة أي حكومة لأي دولة على تحصيل ما يقابلها بالمقدار ذاته.
ويبرز كل ذلك أسئلة محورية -وفقا لفهمي- تتعلق بمصادر تمويل المتحاربين لإطالة أمد الحرب، وتأثير هذا التمويل على تفاقم الاختلالات الهيكلية الموروثة من العهود السابقة.
ويؤكد المتحدث نفسه أنه مع التضخم الجامح الذي سيترتب على هذه الحرب يمكن تصور العبء الذي ستتركه المعارك على الشعب والحكومة المدنية، فمن الواضح -حسب قوله- أنه مع استنزاف الموارد المالية حاليا كنتيجة لاستمرار هذه الحرب سيتم إلقاء الاقتصاد السوداني تحت رحمة رؤوس الأموال الدولية بمبررات إعادة تأهيل مؤشراته الاقتصادية الكلية التي تدهورت بسبب الحرب ولمعالجة كارثتي تفاقم البطالة والفقر وربما الانفلات الأمني الذي بدوره سيفرض ضغوطا إضافية على الإنفاق والموازنة العامة.
وبالإضافة إلى ذلك -يقول فهمي- فإن هذه الحرب سيترتب عليها تزايد الهجرة من الريف للحواضر وإلى الخارج في ظل تردي الأوضاع الإنتاجية والبنى الأساسية والاجتماعية، والتي سيزيد تدهورها لاحقا دون شك إذا استمرت الحرب.
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي عادل خلف الله إنه بعد أي حرب تتوقف المشاريع ويتراجع التمويل محليا كان أو خارجيا، وترتفع نسبة التضخم، سواء لتراجع الإيرادات أو انكماش القاعدة الضريبة أو بزيادة الاستدانة وطباعة النقود على المكشوف لمقابلة الإنفاق الذي سيقفز بالصرف على إعادة الإعمار وسداد فواتير التأمين على المنشآت التي تأثرت، ومن أبرزها قطاعا الطيران والنقل.
ويرى خلف الله في حديثه للجزيرة نت أن الاستمرار المتوقع للعمليات الحربية بحكم تنوع الأساليب القتالية لطرفيها أدى إلى تراجع الصادرات ورفع تكلفة الإنتاج وتعطل المنشآت وضعف وتراجع إمدادات الماء والكهرباء، مقابل زيادة الواردات لسد النقص في المستهلكات الدوائية والغذائية وتنامي الطلب على السلع الرأسمالية وسلع وخدمات الإنشاءات، مما يفاقم عجز الموازنة والعجز في الميزان الخارجي.
ويعتبر أن نطاق الهجرة إلى الخارج -وكذلك النزوح من المدن إلى الريف الآمن نسبيا- بدأ يتسع بسبب الاقتتال والانفلات الأمني والجريمة وعدم الشعور بالأمان، وأيضا بسبب ارتفاع نسبة البطالة والفشل في الوفاء بالدين الخارجي.
ويرى خلف الله أن الطرفين استخدما حتى الآن مخزون عناصر الإمداد والمستهلكات، سواء من احتياطياتهما أو بما تمكنا من الاستيلاء عليه من المقار والمعسكرات والمخازن، و"هنا لا يمكن عزل محاولات السيطرة على مواقع القيادة والسيطرة والبنك المركزي والمراكز التجارية لسد النقص في الإمداد والمستهلكات العسكرية".